&
منذ خمس سنوات لم أكتب، ما كنتُه من جنون وتطرّف لم يعد منه شيء. تنتهي حكاية الكتابة حين تلتفت وراءك فلا تجد أحدا، وَهْمُ أنك تؤثر في هذه الحياة هو ما يدفعك نحو التقدم، تقول، بكل صدق: أنا أكتب لأجعلَ العالم أفضل. فتكتشف أن الثقافة أداة هشّة لا يمكن أن تصمد أمام "غباء" الزمن العسكري، لم يعد أمام المثقف في زمن العسكر إلا أحد خيارين: إما أن يتحول بثقافته نحو الفتوحات الخاصة لتصبح الثقافة بساتين وضِيَع وأرصدة، وإما أن يصمت. الثقافة في زمن العسكر عملٌ مشين؛ وخطيئة أبدية لأنها خيانة للحرية. فانكسارات العام الأول للربيع العربي تجعل ما قبلها من فعل ثقافي مجرد عبث.
كلما دعاني أحد الأصدقاء أو المهتمين للعودة للكتابة تذكرتُ الرجل العجوز الذي يحمل لافتة في ميدان التحرير في القاهرة مكتوبا عليها: "اللي فات ظلم، واللي جاي ظلمات". كان أكثر قدرة من كل المثقفين العرب على قراءة المستقبل، بل ربما كان يتماهى مع تأويلية إيكو الذي ينظر للأحداث بوصفها نصوصا "تحتمل كل تأويل"!.
اليوم؛ لا أدري لماذا تذكرتُ الربيع العربي والكتابة وويلاتها وعجوز ميدان التحرير، ذلك الذي لا يغيب عنّي إلا نادرا، حين سمعتُ خبرَ رحيل "إمبرتو إيكو"؟!، ولماذا شعرتُ بأن صديقا مقربا توفّي؟!، ذلك النوع من الأصدقاء الذي تعرفه منذ سنوات، لكنه لا يعرفك، ضوؤه يصلك، كنتَ تشعر أنه هو المتن، وأن بقية من تتلمذت على أيديهم في سبيل المضي بعيدا في التأويل كانوا هوامش. في المرّة الأولى، وكنت أصغر سنّا، عملتُ على "فقه الفوضى" لثلاث سنوات تقريبا، كان المرجع الرئيس فيه كتابيّ إيكو: "الأثر المفتوح" و"التأويل بين السيميائيات والتفكيكية"، إضافة للكتب الأخرى، المقالات، واللقاءات. طيلة هذه السنوات كنت أتآلف مع إيكو محاولا أن يكون عملي التأويلي تطبيقا مدهشا يجعل الموتى يتحركون في قبورهم كما يقول هيدجر.
بعد ذلك بسنوات كنت أعود للتأويل من خلال نص جديد في "إله التدمير"، ومجددا مع إمبرتو إيكو، لعامين ونصف، أو أكثر، تعود بي التأويلية في كل مرة للأثر المفتوح، ثم شعرية الأثر المفتوح وبقية كتب إيكو. لاحقا قرأت اسم الوردة، النص الروائي المدهش الذي يمكن قول أشياء كثيرة حوله، لكن ما يخصني منه، أو ما بقي عالقا في الذاكرة هو تلك النظرة الإيجابية التي قدمها إيكو في روايته نحو الثقافة العربية والكتب العربية في دير الرهبان الرهيب ذاك.&
رحل إيكو، الضاغط بكل عنف على النصوص لاستنطاقها، المتحدث عن المكتبة المتعددة التي تتناول النص لتجعله متعددا بتعددها، القارئ للتأويل والتأويل المضاعف، الساخر من الرموز أحيانا، حتى حين كتب "اسم الوردة" كان يسخر من الرمز: "من الرموز ما يمكن تداوله بشكل واسع حتى لا يعود له معنى كاسم الوردة"!!. رحل إيكو، لأفكر في مفهوم الثقافة الذي تم تداوله في بلادنا العربية حتى أصبحت مفردة ذات دلالة مغلقة، لا علاقة لها بالآثار المفتوحة، إذ لم يعد في زمن العسكر من فرصة للحديث عن الآثر المفتوح وتأويلاته، فالضغط على النصوص لاستنطاقها أصبح ضغطا على المعتقلين في السجون لاستنطاقهم، والتأويل المضاعف لم يعد أكثر من بؤس مضاعف يتجرعه العربي في زمن القهر. رحل إيكو، ليصبح العالم أكثر بؤسا بانغلاقه، وليكون عصيا على التأويل، بعيدا عن أي شبهة لفهم ما يحدث فيه، حتى ولو على سبيل الحديث عن التأويلات الأكثر هشاشة من مستقبل هذا العالم المغلق/المأزوم.
وداعا أمبرتو إيكو..
&