&

منذ أيام قلائل، قال وزير الخارجية الصيني وانغ يي إن بلاده لا تطمح إلى أن تحل محل الولايات المتحدة ، ولا أن تصبح ولايات متحدة أخرى، ونصح الأمريكيين بدراسة تاريخ الصين الممتد لـ 5 آلاف سنة ويكفوا عن التطبيق الأعمى للتفكير الأمريكي للحكم على الصين، ومعرفة كيف ستتطور الأمور". وجاءت تصريحات الوزير الصيني على خلفية حديثه عن التباينات الأمريكية ـ الصينية، وسعي مرشحي الرئاسة الأمريكية إلى إبراز مواقفهم أكثر تشدداً حيال الخصم الاستراتيجي الصيني، حيث اعتبر وانغ يي أن "البعض في الولايات المتحدة لا تزال له تحفظات حول الصين وقلق من أنها قد تحل محل الولايات المتحدة".
هذه التصريحات التي ربما لم تلفت انتباه الكثيرين تبدو في غاية الأهمية من الناحية الاستراتيجية، لأن الوزير الصيني قال نصاً "ليست لدينا أي نية للحلول مكان أي أحد أو أن نقود أي أحد"، فهل معنى ذلك أن الصين لا تنوي ولا تخطط بالفعل لقيادة العالم في العقود المقبلة؟!
مناقشة هذا التساؤل الحيوي بحاجة إلى فهم عميق للثقافة والتاريخ الصيني، فدولة تضرب بجذورها في التاريخ بعمق خمسة آلاف عام لن تفكر بطريقة مماثلة للفكر الاستراتيجي الأمريكي، وهذه مسألة مهمة لأن التاريخ يفرض بصماته على الفكر الاستراتيجي الصيني، ويجعل القادة الصينيون يديرون أمور بلادهم بشكل مختلف عن النسق الغربي.
فكرة التفوق ذاتها تبدو مختلفة في العقلية الجمعية الصينية عن نظيرتها الأمريكية، فمكانة الصين الجيوسياسية تنمو بسرعة لافتة في السنوات الأخيرة، والناتج المحلي الاجمالي الصيني تفوق بالفعل على نظيره الأمريكي، كما أن مبادراتها الاقتصادية العالمية تحدث تأثيرات فارقة في موازين القوى الاقتصادية العالمية، ولاسيما طريق الحرير البري الجديد الذي يربط الصين باقتصادات شرق وجنوب آسيا وآسيا الوسطى وأوروبا من خلال شبكات من السكك الحديدية والطرق السريعة.
ماقاله وزير الخارجية الصيني بشأن الطموح الاستراتيجي الصيني ليس بالأمر الطارىء، فالصين ترفض الهيمنة الأمريكية على النظام العالمي القائم، وبموازاة ذلك ترفض أيضاً فكرة الزعامة الدولية من أساسها، وتطرح رؤية بديلة قائمة على أن الدول جميعها متساوية في المسؤوليات والالتزامات الدولية، مع رفض تام لفكرة التدخل في الشؤون الداخلية للدول، أي ترنو إلى نظام متعدد الاقطاب، ولكن هذه الرؤية الصينية لا تحول دون تنامي القلق الاستراتيجي الأمريكي حيال الصعود الصيني، والذي تصاعد في السنوات الأخيرة وتجلى بوضوح في استراتيجية "آسيا أولا" التي اعتمدها البنتاجون منذ أعوام قلائل، وبات ما يوصف بالتحدي الصيني محور السياسة الخارجية الأمريكية في فترة الرئاسة الأولى للرئيس باراك أوباما، وانتقلت بؤرة الاهتمام من قضايا حيوية ظلت تشغل دوائر صنع القرار الأمريكي في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، مثل مكافحة الارهاب، إلى قضايا جديدة مثل كيفية معالجة "التحدي الاستراتيجي الصيني"، وهو المفهوم الذي ظهر بقوة في خطاب الرئيس اوباما خلال زيارته إلى استراليا في نوفمبر عام 2011، حيث وضع بوضوح لافت "القوة الأمريكية" في مواجهة "التحدي الصيني"، الأمر الذي اطلق ما يشبه العاصفة الفكرية لدى الباحثين والخبراء الأمريكيين للتوصل إلى البديل الاستراتيجي الأفضل، وكتب هنري كيسنجر وقتذاك مقالاً في مارس 2012 في دورية "فورين افيرز" الشهيرة قال فيه أن الصراع مع الصين خيار وليس ضرورة.
هذا القلق الاستراتيجي الأمريكي يقابله هدوء وتريث استراتيجي صيني لا يتغير ولا يتبدل، فالصين تعرف طريقها جيداً ولكن الغرب لا يفهم نواياها، تلك هي المعضلة الاستراتيجية! &وفي ذلك يقول الباحث البريطاني مارك ليونارد في كتابه "بماذا تفكر الصين What Does China Think?"، الصادر عام 2008، يقول إن "ماهو معروف عن الصين ليس سوى نذر يسير بالقياس إلى ماهو مجهول، وذلك بسبب السرعة الهائلة التي تتغير بها الصين لدرجة أنه ينبغي إعادة النظر بخريطة شنغهاي مثلا، كل أسبوعين" ويستشهد ليونارد على تسارع وتيرة التحول الصيني بقوله 300 مليون صيني قد احتاجوا إلى 30 عاماً فقط ليلتحقوا بعصر الحداثة، بينما احتاج نفس العدد من الأوروبيين إلى 200 عام لتحقيق النتيجة ذاته!!&
اعتقد أن الصين تمتلك حلماً مؤجلاً، فهي لا تستعجل لحظة الصدام الاستراتيجي مع القوى العظمى المهيمنة على العالم في الوقت الراهن، وترى أن لديها وقت كاف لمعالجة إشكالياتها التنموية الداخلية التي ربما تعرقل مسيرتها المستقبلية، وتثق في أن تمددها الاقتصادي الهائل، هو الضمانة الحقيقية لدور مستقبلي لا يعرف ماهيته وحدوده سوى المفكرين الاستراتيجيين الصينيين، الذي لا يعرف العالم عنهم الكثير.
في التسعينيات من القرن العشرين طبقت الصين بدقة استراتيجية الزعيم دينج هسياو بنج التي رفعت شعار "لنخفي نورنا ونعزز قوتنا"، وقد أسفر الصعود الصيني المتسارع إلى اثارة قلق الغرب وجيرانها على حد سواء، ولكن المؤكد في هذا الغموض أن الصين بحاجة إلى التعاون الدولي أكثر بمراحلة من حاجتها إلى الصراع والتنافس، فهذه الدولة الضخمة بحاجة متزايدة ومستمرة إلى البحث عن أسواق وموارد جديدة تضمن الحفاظ على مستوى النمو الاقتصادي، وهو مايفسر انتشار الصينين في كل مكان على ظهر الكرة الأرضية بحثاً عن علاقات وأسواق وفرص جديدة.
منذ قرنين تقريباً، قال نابليون إن "الصين أسد يغط في النوم ولكن حينما تستيقظ فإن العالم سوف يرتجف"، وقد استيقظ الأسد بالفعل منذ نحو عقدين بالفعل، والغرب هو من بات يرتجف من صعود الصين.&
&