&

قبل نهاية العام 1847 كتب ماركس وإنجلز في بيانهما الشيوعي، الفصل الأول، التالي.

" The lower middle class, the small manufacturer, the shopkeeper, the artisan, the peasant, all these fight against the bourgeoisie to save from extinction their existence as fractions of the middle class. They are therefore not revolutionary, but conservative. Nay more, they are reactionary, for they try to roll back the wheel of history. If by chance they are revolutionary, they are so in view of their impending transfer into the proletariat, they thus defend not their present, but their future interests, they desert their own standpoint to place themselves at that of the proletariat "

وهو ما معناه:

الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى، عمال الصناعات اليدوية وأصحاب الدكاكين والمهنيون والفلاحون، جميع هؤلاء يحاربون البورجوازية كي يحافظوا على بقائهم شريحة من الطبقة الوسطى. بناء على ذلك فإن هؤلاء ليسوا ثوريين بل محافظين ؛ بل أكثر من ذلك، إنهم رجعيون، يجهدون لإعادة عجلة التاريخ إلى الخلف. ولئن ظهروا أحيانا بمظهر الثوريين فإنما ذلك كيلا يتحولوا في المستقبل إلى بروليتاريا. إنهم لا يدافعون عن مصالحهم الآنية بل عن مصالحهم المستقبلية بعد أن يتحولوا إلى بروليتاريا.

وفي زحمة أشغال لينين في العام 1921 بعد أن نجح البلاشفة في طرد جيوش المتدخلين الرأسماليين من بلادهم إنكب لينين يدرس عوامل توطيد الدولة الاشتراكية الأولى في تاريخ البشرية فكتب كتابه الشهير "الضريبة العينية" ) (Tax in Kind وأهم ما جاء في ذلك الكتاب هو التالي..

" we must expose the error of those who fail to see the petty-bourgeois economic conditions and the petty-bourgeois element as the principal enemy of socialism in our country."

وهو ما معناه:

يتوجب فضح ضلالة أولئك الذين لم يروا بعد الدور الإقتصادي الذي تلعبه البورجوازية الوضيعة وهي العدو الرئيسي للإشتراكية في بلادنا.

عاد لينين هنا ينقل التحذير بالغ الأهمية الذي طرحه ماركس وإنجلز في البيان الشيوعي، الدستور الأساسي للحزب الشيوعي، وفيه التحذير من أخطار البورجوازية الوضيعة التي وصفها ماركس وإنجلز بالشريحة الأدنى من الطبقة الوسطى حيث كانت ما زالت البورجوازية الدينامية الرأسمالية من الطبقة الوسطى، وأما الطبقة العليا فكانت تتشكل من الارستقراطيين من فلول الإقطاعيين ومالكي العقارات. كما أن البورجوازية كانت قد بدأت تتأسس كطبقة وسطى في المدن أثناء تحلل النظام الإقطاعي.

ماركس ولينين شددا على الطبيعة الرجعية لطبقة البورجوازية الوضيعة حتى وإن بدت أحيانا ثورية. ويضيف لينين على وجوب أن يعي الشيوعيون خطورة البورجوازية الوضيعة على الثورة الاشتراكية، الذي كان ماركس قد نبّه إليه، واجباً آخر بذات الأهمية وهو أن يشن الشيوعيون حملة تفضح أولئك الشيوعيين الضالين الذين لم يروا بعد ذلك العدو الخطير. كان لينين يعي خطورة ألا يعي الشيوعيون خطورة البورجوازية الوضيعة وهذا بحد ذاته خطر داهم على الثورة الإشتراكية وهو ما يسمح لخطورة البورجوازية الوضيعة أن تتعاظم وتنال من الثورة الإشتراكية ؛ ولذلك طالب لينين بشن حملة لا هوادة فيها على تقصير الشيوعيين وافتقارهم لهذا الوعي.

كتب لينين ذلك التحذير في ذلك الوقت العصيب حين كان الشيوعيون يواجهون لأول مرة في التاريخ مهام إرساء أسس النظام الإشتراكي، المهام التي لم يسبق للبشرية أن واجهتها، وهو الأمر الذي يشير إلى الأهمية القصوى في ألا يغفل الشيوعيون خطورة البورجوازية الوضيعة والدور الرجعي الذي تلعبه في الاقتصاد الإشتراكي.

لكن ما علة البورجوازية الوضيعة كي يعتبرها كل من ماركس ولينين العدو الخطير بل الأخطر على الاشتراكية والاشتراكيين!؟

نمط الإنتاج الرأسمالي وكذلك الاشتراكي يلغيان تقسيم العمل، حيث يشترط الإنتاج الكثيف فيهما تعاون أعداد كبيرة من العمال لإنتاج السلعة فلا تعود السلعة تخص أحدهم أو مجموعة منهم، حيث هي في التحليل الأخير مشاع من إنتاج المجتمع بأسره ؛ وأن يستولي عليها الرأسمالي فذلك إعتداء على المجتمع كله وليس على العمال أجرائه وحدهم.

إنتاج البورجوازية الوضيعة يقتصر على إنتاج الخدمات وهي دائماً إنتاج فردي تتأطر داخله حقوق الفرد المنتج للخدمة. عامل الخدمة يمتلك قواه للعمل ويبيعها مباشرة لحسابه الخاص ولمن يدفع له أكثر حيث هي فردية مستقلة لا شريك له فيها. البورجوازي الوضيع هو نفسه من يتاجر بقوة عملة وليس مثل البروليتاري الذي يُملِّك قوة عمله للرأسمالي فيبيعها الرأسمالي لصالحه بأكثر مما دفع بدلها للعامل. هكذا يتم تغريب إنتاج البروليتاري عن البروليتاري نفسه الأمر الذي لا يتم في حالة عمال الخدمات. وهذا التغريب هو من مبادئ النظام الرأسمالي الأساسية الذي كشف عنه ماركس باهتمام خاص.

في مسألة التمليك والتغريب يلزم الاشارة إلى أن شغل البروليتاري يتم وقوعه على جسم مادي فيغير شكل المادة لتصبح ذات قيمة استعمالية ؛ أي أن المادة الخام حملت شغل البروليتاري حملاً حسيّاً ومادياً (Value-from) ليغدو ملكاً لشخص آخر هو الرأسمالي. مثل هذا الأمر لا يتحقق في إنتاج الخدمات. فعمل عامل الخدمات لا يتم وقوعه على جسم مادي فلا تكتسب الخدمة القيمة بشكلها حيث لا تمتلك الخدمة أي شكل، وعليه لا تُوَرّث أو يتم تمليكها إلى شخص آخر. فمن يشتري جهازاً مصنوعاً في الشرق الأقصى مثلاً لا يعود يمتلك أياً من الخدمات التي حُمّلت عليه ولا ينتفع إلا من قيمته الاستعمالية والقيمة الشكل التي هي من شغل البروليتاريا.

الفرق النوعي بين إنتاج البضاعة وإنتاج الخدمة هو فرق حدي في الفكر السياسي وفي الصراع الطبقي. ثمة أقوام كثيرة، وخاصة في أوساط المثقفين، على استعداد لأن تخوض أصعب الصراعات وأخطرها من أجل الإحتفاظ بما تراه من حقها في امتلاك قوة العمل الخاصة بها وكل ما ينتج عنها. مثل هذه الأقوام من البورجوازية الوضيعة لا تعي بأنها تصرف قواها للعمل في إنتاج الخدمات والخدمات ليست من الثروة، الأمر الذي يعني أن البورجوازية الوضيعة تستهلك الثروة بل معظم الثروة ومع ذلك لا تضيف للثروة نقيرا. وعليه فالتناقض بين البروليتاريا والبورجوازية الوضيعة أكثر حدة من التناقض بين البروليتاريا والرأسماليين. لكن مثل هذا التناقض الاستثنائي يخفى على عامة الشيوعيين فما بالك بالبروليتاريا حيث يتواجد مثل هذا التناقض خارج عملية الإنتاج بل في السوق حيث يجري التبادل بين السلع والخدمات بل هو يتم فعلاً خارج السوق لأن الخدمات لا تصل السوق. وهكذا فإن البورجوازية الوضيعة هي أخطر أعداء الاشتراكية كما وصفها كل من ماركس وإنجلز ولينين. وليس أدل على ذلك أكثر من وقائع مشروع لينين في الثورة الاشتراكية العالمية حيث استطاع البلاشفة تحطيم أعدائهم في الحرب الأهلية 1919، وتحطيم تسعة عشر جيشاً من جيوش الرأسمالية العالمية 1921 وتطهير القارة الأوروبية من القوى الفاشية والنازية 1945 بتضحيات لم ولن تعهد البشرية مثيلاً لها ؛ مع كل ذلك وبعد كل ذلك استطاعت البورجوازية الوضيعة السوفياتية من دحر الشيوعيين والاستيلاء على كامل السلطة في الاتحاد السوفياتي في العام 1953 والوصول إلى تفتيته في العام 1991 درءاً لعودة محتملة للشيوعيين.

هزيمة الشيوعيين في حصنهم الحصين، الإتحاد السوفياتي، تعيدنا إلى عبارة لينين في التحذير من البورجوازية الوضيعة كعدو رئيسي للإشتراكية. ذلك التحذير قبل زهاء قرن طويل استوجب قبل كل شيء آخر من الماركسيين اللينينيين أن يقوموا بثورة فكرية تستهدف وعي الشيوعيين الذين لم يولوا الأهمية اللازمة للدور العدائي الذي تقوم به البورجوازية الوضيعة ضد الثورة الإشتراكية.

من الغريب جداً بل والمستهجن أشد الإستهجان أن تعود اليوم بعد قرن ونصف القرن لتجد تحذيرات ماركس وإنجلز ولينين ذات أولوية قصوى في العمل الشيوعي بل التجاوب معها هو المهمة الوحيدة التي تختزل العمل الشيوعي. الحملة التي طالب بها لينين في العام 1921 لفضح خظأ الشيوعيين الذين لم يروا خطر البورجوازية الوضيعة الداهم لم تُشن باستثناء الحملة التي قادها ستالين في نهاية العشرينيات وبداية الثلاثينيات والحملة الثانية 1936 38 إستعداداً لمواجهة النازية كان لينين قد اشترط على الحزب الشيوعي أن يقوم بتطهير صفوفه من عناصر البورجوازية الوضيعة التي تكون قد نجحت في التسلل داخل الحزب بصورة متكررة مع ذلك ولما كان عود البورجوازية الوضيعة السوفياتية قد اشتد نتيجة للعدوان النازي ومقتضيات الحرب الوطنية استطاعت في العام 1953 من دحر الشيوعيين والاستبداد بالسلطة. مع ذلك ما زال هناك شيوعيون يرفضون الحملة التي كان لينين قد اعتبرها جوهرية في حماية الثورة الاشتراكية وهي فضح قصور الشيوعيين في إدراك خطورة البورجوازية الوضيعة ؛ طردتهم من حصنهم الحصين ومع ذلك هم لا يتجاهلون خطورتها فقط بل ينكرونها ويذهبون بعيداً للإتلاف معها فيما يسمى "اليسار".

يلوذ بعض هؤلاء "الشيوعيين" السفهاء بالإدعاء أن من فكك الاشتراكية السوفياتية هم الإمبرياليون مع أن أحداً من الإمبرياليين لم يشارك في اجتماع المكتب السياسي في صباح اليوم التالي لموت ستالين 6 مارس آذار وقراره إلغاء&عضوية 12 عضوا إضافياً في المكتب السياسي كان ستالين قد أصر على انتخابهم من قبل المؤتمر العام للحزب الذي لا يلغي قراراته سوى مؤتمر عام. ولم تدعُ المخابرات الأميركية (السي آي إيه) اللجنة المركزية للحزب الشيوعي للإجتماع في سبتمبر ايلول 1953 لاتخاذ قرار مخالف للقانون يقضي بإلغاء الخطة الخمسية الخامسة من أجل عسكرة الاقتصاد السوفياتي وبدعوى كاذبة هي مواجهة الإمبريالية!! ثم لنفرض أن دعوى الإمبريالية هي صحيحة فمن أين أتت الإمبريالية بطبقة معادية بدل الشيوعيين!؟ وبعضهم الآخر يلوذ بالإدعاء أن البيروقراطية هي التي فككت الاتحاد السوفياتي!! مثل هذا الإدعاء السخيف يلغي نفسه بنفسه حيث أن أي طبقة لا تنتج بيروقراطية لتلغي نفسها. وغالباً ما يتحدث هؤلاء عن بيروقراطية ستالين بالرغم من أن الاتحاد السوفياتي بقيادة ستالين تطور ليصبح أقوى دولة في الغرب بعد أن كان أضعفها. وهل البيروقراطية تشكل طبقة اجتماعية تستولي على دفة السلطة!؟ فريق ثالث من هؤلاء السفهاء يدعي الصحوة وأنه اكتشف بعد انهيار الاتحاد السوفياتي أن مشروع لينين في الثورة الاشتراكية العالمية كان منذ البداية يحمل بذور فنائه داخله. لكنه لم يفنَ في الحرب الأهلية 1918 1919، ولا في حروب التدخل في مواجهة تسعة عشر جيشاً أجنبياً 1919 1921، أو في مواجهة الحصار الاقتصادي أثناء التصنيع السريع 1928 38، أو في حملة تعويم ملكية الأراضي والإنتقال إلى الزراعة التعاونية 1929 31 وكان ذلك أخطر أعمال بناء الإشتراكية بحساب لينين، أو في مواجهة العدوان النازي1941 1945 تلك المواجهة التي استولت على إعجاب العالم فيما انهزمت أمام هتلر أكبر إملراطويتين استعماريتين، أو في حملة إعادة إعمار ما هدمته الحرب 1945 1950 التي تعدّت مقدرات البشر باعتبار غورباتشوف الذي لا يؤمن بالشيوعية. أيعقل أن يحقق مشروع يحمل في جوفه بذرة فنائه كل هذه النجاحات العملاقة!؟ وعن أي بذرة يتحدث هؤلاء السفهاء؟ مثل هذه الدعوى إدعى بها زعماء الأممية الثانية كاوتسكي وبليخانوف في العام 1918 لكن سرعان ما أثبت البلاشفة بطلانها ووقف لينين يخطب في الجلسة الإفتتاحية للأممية الشيوعية في مارس آذار 1919 مؤكداً أن البروليتاريا الروسية قد أثبتت عملياً أنها متقدمة على البروليتاريا في ألمانيا وفي إنكلترا حيث كان لها النصر المؤزر في الحرب الأهلية وقد حطمت كل أعداء الاشتراكية في روسيا القيصرية.

لئن أعذرنا كاوتسكي وبليخانوف بدعواهم ضد اللينينية حين كانت البروليتاريا في روسيا الفيصرية لا تزيد عن 20% من قوى العمل فليس لنا أن نعذر هؤلاء السفهاء حيث شكلت "البروليتاريا" أكثر ن نصف قوى العمل في الاتحاد السوفياتي في العام 1953.

نترك الرد على كل هؤلاء السفهاء لنيكيتا خروشتشوف صاحب الخطاب الشهير ضد ستالين في العام 1956 وقد افتتح المؤتمر العام الاستثنائي للحزب 1959 يقول.. "تمكن حزبنا بقيادة ستالين لفترة طويلة من التغلب على سائر الأعداء وبناء دولة اشتراكية عظى نفاخر بها".

الشيوعيون غير الضالين اليوم هم الذين يتسلحون بالماركسية اللينينية التي تقتضيهم قبل كل شيء آخر العمل على فضح الشيوعيين الذين لم يروا بعد خطورة البورجوازية الوضيعة وهي تنحدر بالعالم إلى القاع هرباً من الاستحقاق الإشتراكي ومع ذلك يأتلفون معها في "اليسار". البورجوازية الوضيعة تستأجر هؤلاء "الشيوعيين" الضالين للعمل معها ضد الشيوعية حتى وإن بدت أحياناً ثورية كما نبّه كارل ماركس.