بعد عودته إلى المشهد السياسي عام2011، كرئيس للحكومة المؤقته التي هيأت لأول انتخابات حرة في تونس& في خريف& العام المذكور، كان الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي يحب أن يردد دائما بإن "جُبّة الزعيم بورقيبة تتسع للجمع".& ومعنى ذلك أنه أراد أن يؤكد للتونسيين في فترة كانت فيها حركات وأحزاب برزت على الشهد تحاول بشتى الطرق والوسائل الحط من قيمة زعامة بورقيبة، والإساءة إلى منزلته في التاريخ التونسي المعاصر، وفي قلوب الكثير من التونسيات والتونسيين، أنه سيظل وفيا له حتى النهاية، وبهدي منه سيقود البلاد.& وعندما انتخب رئيسا للجمهورية في أواخر عام ، حرص السبسي على إعادة اقامة تمثالين لبورقيبة في العاصمة، وفي مدينة سوسة، كان نظام بن علي قد أزاحهما.

وكان السبسي قد انجذب إلى بورقيبة في سنوات الشباب الأولى عندما كان يَدْرُسُ مع ابنه في المدرسة الصادقية التي تخرج منها رموز النخبة التونسية في السياسة والثقافة. وكان عليه أن ينتظر صيف عام&1954، لكي يلتقي ب "المجاهد الأكبر" للمرة الأولى. حدث ذلك بعد أن ألقى بيار منداس فرانس خطابا أمام الباي محمد الأمين، وفيه أعلن عن نية بلاده منح تونس استقلالها الداخلي. وللتأكيد على ذلك، أطلق سراح الزعيم بورقيبة الذي كان معتقلا آنذاك في سجن بجزيرة "لاغروا" الفرنسية. وقد قامت السلطات بنقله إلى باريس، وفيها التقى بفوج من الطلبة التونسيين الذين كانوا يدرسون في مختلف الجامعات الفرنسية. وكان الباجي قائد السبسي الذي كان يدرس القانون واحدا من بين هؤلاء. وهو يروي أن الزعيم& بدا أمامهم متمتعا بالصحة، وبحيوية اشتهر بها في أيام النضالات العسيرة. &وفي تلك، السنة، كانت الحرب التي ستفضي إلى تقسم كوريا إلى شطرين، مشعلة شرارة الحرب الباردة،& في أوج عنفها وجنونها. وربما للتعرف على المستوى السياسي للطلبة التونسيين،& لم يرغب الزعيم& بورقيبة في بداية اللقاء أن يخوض في الحديث لا& عن الوضع في تونس، ولا عن الوضع في فرنسا، بل سأل الطلبة عن رأيهم في الحرب الكورية.& ويقول السبسي أن جميع الطلبة كانوا آنذاك مناصرين لكوريا الشمالية التي كانت مدعومة عسكريا& وسياسيا من قبل الصين الشيوعية، وما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي. لذلك اندفعوا يتحدثون بحماس شديد عن مناصرتهم لكوريا الشمالية. وعلى مدى عشرين دقيقة، ظل الزعيم بورقيبة يستمع إليهم صامتا، ثم فجأة تدخل ليعلن أنهم على جهل بالأوضاع الدولية، وأن ثقافتهم السياسية المبنية على الحماس والعواطف هي التي جعلتهم ينحازون إلى كوريا الشمالية. وأمام الطلبة المرتبكين، أضاف الزعيم بورقيبة قائلا بأن مناصرة المعسكر الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفياتي خطأ جسيم إذ أن هذا المعسكر تخترقه تناقضات عديدة وخطيرة سوف تؤدي به ذات يوم إلى التفتت والانهيار(وهذا ما وقع فعلا في خريف عام&1989). ورغم أن تونس محتلة من قبل فرنسا التي تنتمي إلى العالم الحر بقيادة الولايات المتحدة، فإنه يجدر بنخبتها السياسية التي تقود نضالاتها من أجل الحصول على الاستقلال، &&تجنب معادة هذا العالم، بل& التعامل معه اعتمادا على سياسة معتدلة، تقوم على الحوار المتبادل، وعلى الاستفادة منه على المستوى الاقتصادي بالخصوص. ويقول الباجي قائد السبسي بإن& الزعيم بورقيبة رسم بدقة وذكاء أمام الطلبة التونسيين& المذهولين، الخطوط الكبرى للسياسة التي سوف تنتهجها تونس بعد حصولها على الاستقلال& إذ أنها ظلت مناصرة للعالم الحر، لكن من أن تظهر العداء للمعسكر الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفياتي. وأشار السبسي أيضا إلى أنه تلقى خلال ذلك اللقاء الأول مع الزعيم بورقيبة درسا في السياسة الخارجية، وفي العلاقات الدولية. وذلك الدرس ظل راسخا في ذاكرته فلم يحدْ عنه أبدا.

وبعد الاستقلال، كان الباجي قائد السبسي واحدا من الشبان اللامعين الذين اختارهم الزعيم بورقيبة لبناء الدولة الجديدة. وبموجب ذلك، تقلد مناصب رفيعة. &كان وزيرا للدفاع، ووزيرا للداخلية، ووزيرا للخارجية، وسفيرا في باريس، وفي بون ، عاصمة ما مان يسمى بألمانيا الاتحادية. وصحيح أن الزعيم بورقيبة كان قد أبعده في أكثر من مرة &من حاشيته، ومن مراكز القرار لكنه ظل& رغم ذلك مخلصا ووفيا لسياسته في جميع مستوياتها. برحياه، لم يتبق من الوزراء الكبار الذين عملوا إلى جانب "المجاهد الأكبر" في دولة ما بعد الاستقلال، سوى ما لا يزيد على عدد أصابع اليد الواحدة. والسيد محمد الناصر الذي تولى مؤقتا رئاسة الجمهورية بموجب الدستور، واحد من هؤلاء. &