بين الحين والآخر نرى ونسمع ونقرأ أن مجموعة من الناس قد دخلوا في دينٍ مُعيَّن أو انتقل أحدهم من مذهب إلى آخر في نفس الدين، فيبدأ الاحتفاء بهم أمام الملأ، فتنهال عليهم التكبيرات والتهاني وقد ينالهم نصيب من الجوائز والأموال!
ثم يأتي بعد ذلك من يتساءل عن شيوع ظاهرة النفاق في المجتمعات العربية والإسلامية!
في ظني أنه لا فرق بين مؤمن يعلن إيمانه أو ملحد يعلن إلحاده، الإيمان من عدمه ليس إنجازاً تحتفل به أو نجاحاً تفتخر بتحقيقه أو هواية تخبر بها الآخرين، الإيمان أو نقيضه مسألة قناعة وضمير.
الصحابي الجليل ثُمامة بن أثال رضي الله عنه قبل إسلامه عندما قام الصحابة بأسره وحبسه لكي يُسلم، كان يأتي إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في كل يوم لعلَّه يُسلم، وكان ثُمامة يرد عليه في كل مرة قائلاً: "يا محمد إن تقتل تقتل ذا دم وإن تُنعم تُنعم على شاكر".
هنا يُجسِّد ثُمامة قيمة الإنسان بذاته، بمعنى آخر(يامحمد إن تقتل فإنك تقتل إنسان بريء ليس له ذنب سوى أنه لا يؤمن بدينك) وكأن ثُمامة يريد أن يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: دم الإنسان ليس رخيصاً يا محمد، دم الإنسان أغلى من كل الأديان يا محمد.
وأراد ثمامة أيضاً أن يقول من خلال موقفه هذا: إن كُنتُ سوف أُسلم فإني سأُسلم عن قناعة واقتناع، ولن أدخُل في الإسلام خوفاً منك يا محمد ومن أتباعك ولو كان الجزاء هو القتل!!
فأدرك النبي صلى الله عليه وسلم عظمة وكبرياء ثُمامة وصدقه فأيقن عليه السلام أن ثُمامة إنسان صالح ذو أخلاق رفيعة وإن لم يُسلِم، والنبي عليه السلام وهو القائل: (إنما بُعِثت لأتمِّم مكارم الأخلاق) قد وجد أن هذه الأخلاق تامَّة ومتوافرة في نفس ثُمامة، فأمر الصحابة أن يُطلقوا سراحه، وعلاوةً على الأخلاق فإنه قد تجلَّى في ثمامة أَنَفة الإنسان العربي وكبرياءه وكرامته ووضوحه وشجاعته، فالعربي الحر لايعرف النفاق والكذب وليس موجوداً البتَّة في ثقافتهم وتأباه أخلاقهم وتترفَّع عنه نفوسهم. وبعد أن أصبح ثُمامة حُرَّاً ويملك قراره إطمأن لهذا الدين وشعر بصدق محمد صلى الله عليه وسلم، فما كان منه إلا أن ذهب واغتسل ورجع إلى النبي وأعلن إسلامه.
نحن أحوج ما نكون إلى نموذج ثُمامة، هذا النموذج الذي لا يمكن أن يُخرِج لنا من يُسيِّس الدين أو من يجعل من الدين سلاحاً مدمِّراً للإنسان وللحياة أو يلجأ للدين تعويضاً عمَّا يفتقده وينقصه من نجاحات أو إنجازات أو قيم وأخلاق نبيلة فيُصبح تديُّنه حينئذ انعكاساً لاختلالاته واضطراباته المعرفية وقناعاته المُشوَّهة.
(وإن تُنعم تُنعم على شاكر) المقصود بها فيما أراه:
أنك إن تفضَّلت عليَّ يا محمد فأنا أهلٌ لذلك، فأنا زعيم قومي ورفيع النسب ولي مكانتي واحترامي(حيث كان ثُمامة سيِّداً لقبيلة بني حنيفة في اليمامة).
وهنا ملمح لطيف، حيث نلاحظ أن العزة والأَنَفة متوارثة في أبناء هذه القبيلة جيلاً بعد جيل، بالأمس لم يخضع ثمامة للإسلام بحد السيف بل دخله عن رضا واقتناع، وبعد أن دخله خضعت له قريش بعد أن فرض عليها الحصار وقطع عنهم الغذاء نُصرةً للنبي صلى الله عليه وسلم، واليوم ترفض السعودية بقيادة(آل سعود من بني حنيفة) الخضوع لأي قوى خارجية مهما بلغت عظمتها، من ذلك قطع البترول عن الغرب في عهد الملك فيصل رحمه الله، طرد السفير الأمريكي بعد محاولة تدخل أمريكا في منع صفقة أسلحة للصواريخ الصينية في عهد الملك فهد رحمه الله، طرد السفير الكندي بعد تدخُّل كندا في قضايا داخلية في عهد الملك سلمان حفظه الله، وغيرها من المواقف التي تَنُّم عن العزة والكبرياء وعدم الرضا بالتبعية.
&