عند النظر إلى مواقع التواصل الاجتماعي والقنوات والبرامج التي تستضيف أصحاب الفكر الإلحادي ومؤيديهم، سنجد بما لا يدع مجالاً للشك أن هناك موجة إلحاد تعصف بالشباب وتتخطَّفهم ذات اليمين وذات الشمال، ولا أظن أنه يوجد مضاد لها سوى في التصوُّف، فالتصوُّف هو العلاج الفعَّال والدواء الناجع للإلحاد، بينما اتخاذ(العقلانية) طريقةً ومنهجاً لعلاج تلك المشكلة أو الظاهرة فإنه لا يعالجها بل يساهم في زيادتها ويقويها ويُسندها، فالإلحاد وإن كان يتجلَّى ويظهر في صورة فكرية أو سلوكية إلا أنه نابع من الوجدان، وقد يتعجب البعض من هذا الرأي فيقول: الإلحاد أتى نتيجة عدم اقتناع العقل بمسائل يعتبرها خرافات ولا يقوم عليها الدليل الفيزيقي أو المنطقي، فكيف تقول أن التصوف الذي هي دروشة وخرافات(كما يعتقد البعض أنه كذلك) هو العلاج للإلحاد!؟
الجواب بإيجاز: أنه لمَّا كان الإلحاد يؤثر سلباً على الإنسان انفعالياً ووجدانياً، فإنه قد اقتضى أن يكون العلاج من جنس المشكلة ذا طابع وجداني يتوافق مع طبيعة المشكلة، ولا يوجد سوى التصوف يشعل لهيب الروح تجاه خالق الوجود ومدبره.
وإن صح التعبير فإنه يمكن القول بأن التصوف في الإسلام يقابل مفهوم الروح القدس في المسيحية، فالروح القدس هو من يعطي المواهب الروحية ويشعل الرغبة نحو الإله عند الإنسان المسيحي، ففي الكتاب المقدس في رسالة بولس نجد الأمر بالامتلاء بالروح القدس: (ولا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة بل امتلئوا بالروح)، وفي هذا إشارة واضحة على أن الأحوال الوجدانية لها دور فعَّال في حياة الإنسان ولها لذة محسوسة كلذة الخمر تماماً ولكن بلا أضرار أو خطيئة، وفي آية آخرى: (يعطي الروح القدس للذين يسألونه)، فليس كل أحد يستحق أن ينال تلك القوة الروحية إلا من يريدها بالفعل فيسعى لها لكي يكون أهلاً لها، وكذلك التصوف في الإسلام يقوم بالدور نفسه، فيشعل الرغبة عند المسلم نحو الله، ومرتبة الإحسان في الإسلام(أن تعبد الله كأنك تراه) تعادل الامتلاء بالروح القدس في المسيحية، ويمكن القول أيضاً أنه لا أحد يستشعر وجود الله وعظمته كما يستشعرها الصوفي الحقيقي، فالتصوُّف يجعل الإنسان في حالة ديناميكية روحية نفسية نفسية مستمرة تسمو بالإنسان إلى أرقى صورة، ويكاد أن يتحوَّل فيها الإنسان إلى صورة شبه ملاك.
التصوُّف فيما أراه ماهو إلا طريقة في التديُّن تُضفي على أسلوب حياة الإنسان الحب والسلام والراحة والتسامح مع الذات ومع الآخرين.
إن التصوُّف في نظري هو ميكانيزم الروح، فالعلاقة بينهما علاقة تسامي، لأن الروح عندما تختلط بالتصوُّف فإنها تسمو بذاتها من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة، حينئذ يكون دور التصوُّف بهذا المفهوم التسامي بالدين، فيُصبح ديناً حقيقياً سماوياً لا أرضَ فيه ولا دنيا.
وعندما أقول التصوُّف وأنا مسلم سني المذهب وسلفي النشأة والعقيدة، فإني أعني به التصوُّف المنسجم مع روح القرآن وما كان عليه كبار المتصوِّفة الذين هم علماء أجلَّاء كالحارث المحاسبي والجنيد والقشيري وحجَّة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي رحمهم الله رحمةًّ واسعة، وفي العصر الحديث هناك الشيخ الكبير محدث الحرمين محمد علوي المالكي رحمه الله والشيخ الحبيب الجفري حفظه الله.
وهناك من يعترض على التصوُّف وينكر على المُتصوِّفة تمايلهم أثناء حلقات الذكر والغناء الديني، ورغم أن التصوف أعظم مسألةً وأعمق روحاً وأكبر قدراً من مجرد التمايل أو الرقص، ورغم ذلك كان لابد من الرد على من يعترضون وينكرون، والرد عليهم سيكون عبر مقولة لأحد السلف الصالح رحمه الله، حيث نجده يقول: (إنه لَتَمُرّ بالقلب أوقات يرقص فيها طرباً)، وهذا هو ما يحدث مع المتصوفة نتيجة تأثر الوجدان وامتلاؤه بالعشق الإلهي، فنجدهم ينسون أنفسهم فيصدر منهم بعض الحركات من تمايل ونحوه لا على سبيل الابتداع بل على سبيل: لا نرى سوى الله ولا نسمع غير الله ولا ننطق إلا بالله. وإن رَقَصَ القلب طرباً وفرحاً بالله كما يقول السلف الصالح، فكان لزاماً أن تتبعه الجوارح في هذا الرقص والفرح.