ربما لا يبدو الرئيس الامريكي دونالد ترامب مفكراً استراتيجيا , بل انه شكل ومحتوى اخر وغير مسبوق من اشكال القيادات الامريكية لم يستطع احدا ان يقول لحد اليوم ان هنالك مبدأ واضحا يعنون السياسة الخارجية الامريكية.يقول مايكل انتون مستشار الاستراتيجية والاتصالات في مجلس الامن القومي الامريكي, "الرئيس دونالد ترامب لم يحدد مبدأ واحد لسياسته بل انه قام بجمع عدد من المبادئ المختلفة والتي لا نهاية لارتباكها".

ولكن يبدو ان مع نهاية العام الحالي بدأت ملامح الرئيس ترامب تنجلي حيال قضايا دولية عديدة. الولايات المتحدة وجدت ان الاسلوب الذي تعاملت فيه مع ملف كوريا الشمالية كان مثال ناجحاً في ادارة الصراع فبعد ان وصلت العلاقات مع بيونغ يانغ الى نقطة اللاعودة وتصاعدت الازمة في مطلع عام 2017 حتى نقطة الانفجار, تفاجأ العالم بمبادرة ترامب للحوار مع الزعيم الكوري ومن ثم الزيارة التاريخية التي قام بها الى بيونغ يانغ . ادارة الرئيس ترامب اتخذت اسلوب الواقعية الاستراتيجية في مواجهة الدول التي كانت تصنفها على انها الدول المارقة ,وبدل ان تستخدم المواجهة العسكرية استخدمت اسلوب الالتفاف وتكسير الحواجز والاحتواء.

اليوم الولايات المتحدة تواجه عدوها التقليدي الاخر الا وهو ايران,انه عدو بملامح مختلفة ولكنه عنيد وصلف ومهدد. لهذا استخدمت ادارة ترامب اسلوب مختلف يجمع بين الخنق المحكم والتلويح بفتح الابواب لاي مبادرة تتفاوض بها مع الادارة الامريكية بخصوص الملف النووي الايراني نقطة الخلاف. الولايات المتحدة تحتاج لوقت طويل وصبر صلب في تحقيق مبتغاها من ايران .في السابق كانت الولايت المتحدة تتعامل مع الحالات المشابهة للحالة الايرانية بان تقوم بارسال حاملات الطائرات وقصف مركز للمراكز الحيوية يستمر الى حين اسقاط النظام واستبداله باخر موالي للولايات المتحدة, هذا ما حدث مع العراق وليبيا. في حالة العراق بعد عام 1991 استخدمت الادارة الامريكية الحصار الاقتصادي لخنق النظام العراقي&ولكن مع هذا لم تتوان عن استخدام القصف الجوي على المراكز الاستراتيجية العراقية وخاصة في عام 1993 حين تم استهداف منظومة صواريخ دفاعية قام العراق بتطويرها بجهد ذاتي, وكذلك في عام 1999 في اطار عملية ثعلب الصحراء التي شنتها قوات التحالف البريطاني الامريكي على مواقع عراقية ردا على رفض الحكومة العراقية التعاون مع بعثة الامم المتحدة للتفتيش عن اسلحة الدمار الشامل.

اليوم الولايات المتحدة في صراعها مع ايران تبدو كأنها دولة جديدة لم نعرفها نحن سكان الشرق الاوسط الذي تربى على قصص شرطي الخليج الذي يحمل عصاه ويلوح بها بوجه من تسول له نفسه هز عرش الهيمنة الامريكية. اليوم ايران تمارس شتى انواع الضغط وشتى انواع الصلف والتحدي وشتى انواع التحدي لكل قواعد لعبة الامن والدفاع والردع في الشرق الاوسط ومع هذا تقف الولايات المتحدة في صبر او لامبالاة وكانها غادرت المنطقة روحاً وان كان لاتزال تحتلها بقواعد و سفن وعتاد يبدو وجوده مكياجاً في وجه عجوز هرمة.

هل الولايات المتحدة في حرب مع ايران ؟ الجواب كان حاسما في الايام الماضية عندما تم قصف منشأتين لشركة ارامكو في البقيق في المنطقة الشرقية وهو ما يعد اخطر تصعيد لحد الان منذ بدء الصراع مع الولايات المتحدة, تماسكت الولايات المتحدة مرة اخرى وقام الرئيس لامريكي بتصريح لمح فيه بان مصدر القصف معروف للولايات المتحدة ولكنه لايزال يدرس الرد المناسب. ترامب الذي يبدو رئيساً دون مبدأ استراتيجي نجح في ان يكون الرئيس الامريكي الوحيد منذ الاباء المؤسسين الذي يعلن مبدأ "الحرب بدون حرب". ايران تتمنى ان تقوم الولايات المتحدة بتوجيه ضربة عسكرية مباشرة لها لكي تجمع حولها المريدين والاتبعاع ايديولوجياً من جهة وايضا تجد المبرر امام الحلفاء الكارهين لادارة ترامب لتبرر لهم انفلاتها من تعهداتها النووية, فتعلن نفسها ندأً نووياً &صريحا في منطقة يعد امتلاك اسلحة الدمار الشامل فيها تحطيماً للامن والسلم العالمي وايضاً تفتح الابواب لكل المارقين الاقليميين ليدخلوا النادي النووي.

اذا ليس امام ادارة ترامب سوى ان تقلب السحر على الساحر ومقابل كل استهتار ايراني يكون الرد بحزمة جديدة من العقوبات التي ستكون مبررة امام الراي العام العالمي والراي العام الايراني, فالنظام لايبالي بمعانات الناس انه يبحث عن فتح باب للحروب والصراعات المدمرة لايران ولكل المنطقة. الولايات المتحدة وحلفاؤها الاقليمين تحديداً بعد حادث البقيق يتبعون اسلوب التعامل الواقعي العقلاني الذي ربما سيزيد من اهتياج النظام الايراني الذي سيحاول ان يزيد من وتيرة التصعيد كرد فعل لحالة الاختناق المؤلم الذي يعاني منه وهو يتوقع مع كل تصعيد ان يكون هنالك رد فعل عسكري لذلك فان المؤسسة العسكرية الايرانية في حالة تأهب دائم يمكن رصده من خلال تصريحات القادة العسكريين الايرانيين بعد كل تصعيد للازمة. بل ان بعضهم يهدد بقصف المصالح الامريكية مباشرة وكانه يتعمد اثارة غضب الادارة الامريكية وهذا التصرف يدل على ان التحشيد العسكري الايراني وصل الى اقصى مستوياته وصار مؤلماً لنفقات الدولة المتضررة اصلاً جراء العقوبات.

ربما ليس بين ترامب والمفكر الاستراتيجي الصيني صن زو اي علاقة بل انهما كائنين من عالمين مختلفين ,ولكن ادارة ترامب لملف الصراع مع ايران يظهر وكانه صفحة من صفحات كتاب "فن الحرب" الذي كانت اهم توصياته "ان اخضاع العدو بدون قتال افضل من احراز مئة انتصار في مئة معركة.. ان افضل طريقة لتحقيق هذا الهدف هو ان يترك جيش العدو يتحشد لاطول فترة ممكنة دون قتاله لكي يستنزف موارد البلد وينهار معنوياً بالتدريج وتخور عزائمه".