في أوائل شهر ابريل 2019 بدأ نظام البشير يترنح وأينعوحان قطافه ، وساد شعور عام وسط الناس وخاصة الغلابة بقرب بزوغ فجر الخلاص من قبضته مما زاد حماسهم للانخراط في الثورة. وكانت الخرطوم وعطبرة وسودري وكسلا وخشم القربة وكل مدننا الجميلة تفيض بالأمل في تلك الأيام ، وتزامن هذا التفاؤل مع دعوة تجمع المهنيين السودانيين الشعب السوداني لمليونية " الرحيل " او 6 ابريل الحاسمة والقاصمة لحكم البشير البوليسي الجائر ، وكانت حكومة الإنقاذ الكيزانية متمثلة في كبار قادتها يسخرون من هذه الدعوة ويتحدون ان يخرج أحد، وصرح نافع علي نافع احد جبابرة دولة الكيزان ساخراً " كلها يومين وحا نشوف ". بينما دعا الأمام الصادق المهدي أنصاره وجموع السودانيين للمشاركة بكثافة في هذه المليونية وان المشاركة فيها فرض عين. وصرح الإعلامي الكوز المعروف حسين خوجلي صاحب قناة امدرمان الفضائية مغاضباً بأننا نحن الإسلاميين التيار الوطني العريض من الشعب الذين نمثل 98% لن تستطيعوا أيها الشيوعيون الذين لا تمثلون سوى 2% الضحك علي أولادنا وبناتنا يا عمر الدقير والخطيب ، غدا سيخرج التيار الإسلامي العريض وترفعون أيديكم عنهم يا شذاذ الآفاق.

استبقت الحكومة هذه المليونية بحملة اعتقالات مكثفة للناشطين من الشباب والشابات ( الكنداكات ) وأعضاء تجمع المهنيين وداهمت الحملة البيوت والجامعات تستهدفهم أينما كانوا حتي امتلأت بهم السجون وفاضت ولكن لم ينضب رحم الثورة من ميلاد ألف ناشط وناشطة هنا وهناك ، فكل الشعب أصبح ثائراً وناشطاً . عرفت الأجهزة الأمنية ذلك وأيقنت ان هذه الثورة ثورة غبن ولن تجدي معها الاعتقالات فتيلا، ومن باب الترهيب خرج علينا نائب الرئيس الفريق الركن عوض ابن عوف مخاطباً قوات الدفاع الشعبي مطالبا اياها للقيام بدورها وإعداد العدة للتصدي لأعداء الوطن والمخربين ودعاة الفوضى بقصد بث الرعب في الناس وإخافتهم من هذا الجناح الإرهابي من الجيش المسمى بقوات الدفاع الشعبي . كما صرح الفريق اول ركن كمال عبد المعروف ان القوات المسلحة جاهزة للقيام بدورها وملتفة حول قيادتها ولن تسمح للمتربصين لجر لبلاد لمزالق الفوضى. أيضا لعب الدجاج الالكتروني التابع للنظام دوراً كبيراً في الترجيف وتخويف الناس من عواقب الانجرار وراء تجمع المهنيين وحاول زرع الشك بأن هذا التجمع ما هو الا كيان هلامي لا وجود له علي ارض الواقع ، وهم مجموعة من الشيوعيين الذين يعيشون خارج البلاد ويسعون الي تقويض دولة الشريعة والفضيلةليعودوا بالبلاد للفسوق والتعري والانحراف الأخلاقي .

أما الدعاة وأئمة المساجد فهؤلاء كانوا أكثر الفئات وقوفاً مع السطان الجائر وولي نعمتهم وعلي رأسهم الشيخ / عبد الحي يوسف الكوز الكبير والمفتي والعالم في بلاط حكم البشير والمستنفع من الأموال التي يأخذها نظير المساهمة في الهاء الشعب بالخطب الدينية العاطفية التي ترسخ لحكم الأخوان والتلاعب بمشاعر البسطاء بالشعارات الدينية الفضفاضة ، فظل يردد هؤلاء الأئمة أن سبب الغلاء وانعدام السلع ما هو إلا ابتلاء من الله لكوننا متمسكون بشرعه وأننا محاربون من العالم الكافر بسبب ديننا ، وأن هذه الابتلاءات ليست من الحكومة وحدها ولكن بما أيديكم أيها المسلمون، ويطلبون من المصلين ان يتوبوا إلي الله حتي يرفع عنهم البلاء وان الحاكم لا علاقة له بالجوع والفقر الحاصل ويجب طاعته ولو متنا من الجوع لأننا سندخل الجنة زمراً برفقة هؤلاء القادة الأتقياء ، فتوالي الاعتداء عليهم من قبل الشباب وإنزالهم من المنابر لكونهم علماء سلطان مأجورين لا يقولون الا ما يتماشى مع مصلحتهم ويتطاولون علي الشعب بتحميله سبب الضائقة الاقتصادية الطاحنة التي سببها السرقة وسؤ الإدارة والفساد الظاهر لمنسوبي النظام الذين يكابرون وينكرون ويطالبون كل من لديه مستندات تدين احدهم تقديمها وهم المتحكمون في النيابات والقضاء وكل الأجهزة العدلية بالبلد.

ولكن كما أسلفنا في الحلقات السابقة ان الشعب قد اقتنع بأنه لا خيار للتراجع عن هذه الثورة مهما واجه من تهديد ووعيد او وعود كاذبة بالإصلاح ، فالتف حول قيادة تجمع المهنيين وسار ورائها بعد ان لمس حنكتها في إدارة هذه الثورة وأنها تسير بها في الاتجاه الصحيح لإنهاء حكومة الظلم والهوان التي جثمت على صدره 30 عاماً. فكانت جداول وخرائط تجمع المهنيين غاية في الدقة وحسن الإدارة ، فانتشرت الثورة في الأحياء ، زاد حجم المظاهرات الليلية هنا وهناك ، وبالمقابل تفرقت جهود قوات الأمن وفشلت كل خططها فما أن تخمد مجموعة هنا تظهر أخرى هناك ، وصار الشباب في بري وغيرها ينصبون الكمائن " لعربات التاتشر " وهو اسم محلي للسيارات المسماة في السعودية " جيب شاص " فتمكن الثوار من " بهدلة " العسكر وكسر شوكتهم وقلب سيارتهم والقبض علي بعضهم مع المحافظة التامة علي السلمية. حيث كان شعار سلمية سلمية شعارا حقيقياً لم تنجرف الثورة لاي عنف مضاد او قتل او انتقام رغم محاولاتالنظام وصم الثورة بالتخريب والاعتداء علي ممتلكات الناس ولكن كل يوم تثبت الثورة أنها سلمية تماماً وكل شيء موثق في هذا العصر ولا مجال لإلقاء التهم جزافاً.

في يوم السبت الواحدة ظهراً الموعد المضروب لمليونية 6 ابريل خرجت جحافل الشعب من كل الفئات والأعمار صوب قلب الخرطوم المشرئب للانعتاق وبزوغ فجر الحرية والخلاص في ذلك النهار الغائط. فخرجت الخرطوم عن بكرة أبيها رجالها ونسائها وشيبها وشبابها بصورة أذهلت حتى تجمع المهنيين نفسه الذي لم يكن يتوقع خروج هذه الجموع المليارية ، وانتهى بهم المطاف حسب خارطة تجمع المهنيين الي ساحة قيادة قوات الجيش وتم توجيههم من قبل قيادة تجمع المهنيين للاعتصام هنا والبقاء في هذا المكان في حرم الجيش وتحت عينه وحراسته وارتفعت الحناجر مناشدة الجيش بالانضمام للشعب ( جيش واحد.. شعب واحد ) ، هنا اصيب نظام البشير بصدمة كبيرة ودخله الرعب وان هذه الثورة وصلت مرحلة اللا عودة ويصعب إخمادها . ولكن الجيش المؤدلج وخاصة كبار قادته كانوا من الاستحالة بمكان إن يقفوا مع الثورة ضد نظام حكمهم ولكن حدثت مفاجآت من الرتب الوسيطة وصغار الضباط وكان لقوات الدعم السريع دور محوري في الأحداث اللاحقة لبداية الاعتصام. وانتظم الاعتصام وسادت الأجواء الاحتفالية والهواء الطلق معبق بأنغام الموسيقى واستقر الناس ونصبت الخيام وتوفر الطعام والماء وتوارى الظلام وحان سقوط اللئام.

في الحلقة القادمة... سقوط البشير في 11 ابريل واستمرار الاعتصام وما حدث فيه من جمال وإبداع وفن والتفاف وانبهار إلي حين فضه بالقوة في 29 رمضان.