شخصيّا لم أتفاجأ بالهزيمة النكراء والمذلة التي مُنيَ بها اليسار التونسي المتمثل في "الجبهة" الشعبية التي يقودها الشيوعي المتطرف حمه الهامي، وبقية فروعه الأخرى،& سواء في الانتخابات الرئاسية التي جرت منتصف الشهر الماضي، والانتخابات التشريعية التي انتظمت في السادس من الشهر الحالي. ولهذا الاندثار أسباب عديدة لكننا سنقتصر على أهمّها...

أولها أن اليسار التونسي تعوّد على أن يعيش فوق محيط من الأوهام. من ذلك مثلا أنه خيّل له بعد انهيار نظام بن على في الرابع عشر من شهر جانفي2011، أنه هو الذي أسقطه. لذلك شرع يتصرف وكأنه القوة الأساسية في البلاد، مطالبا بعفو تشريعي عام، وبمجلس تأسيسي لوضع دستور جديد في البلاد.& كما كان اليسار& المُدبّر& الأساسي للاعتصامات أمام قصر الحكومة ب"القصبة، والتي استمرت أسابيع طويلة. وكان الهدف من ذلك "تجذير الثورة" و"كنس من تبقى من رموز النظام البائد" بحسب تعبير حمه الهمامي. إلاّ أن حركة النهضة كانت المستفيد الأكبر من كل هذا. فقد سمح لها العفو التشريعي العام& بإطلاق& سراح أ نصارها من السجون، وبعودتهم من المنافي، وبالنشاط العلني لتصبح في ظرف أشهر قليلة القوة السياسية الضاربة في البلاد. وبما أنها الفائز الأكبر في الانتخابات التي انتظمت في خريف عام2011، فإن الدستور الجديد الذي لم ير النور إلاّ في نهاية عام&2014،& سُن بحسب المقاييس التي فرضتها على الجميع بمن في ذلك اليسار الذي مني بهزيمة مرة في الانتخابات المذكورة.&

ورغم أن اغتيال كل من شكري بلعيد في السادس من شهر فبراير2013&، ومحمد البراهمي في الخامس والعشرين من شهر يوليو من نفس العام، كشف عن المخاطر الجسيمة التي تهدده، فإنه اليسار التونسي ظل يكابر، متوهما أنه لا &يزال يتمتع بقاعدة شعبية تُخوّل له أن يظل لاعبا أساسيا على الركح السياسي. وقد ازداد قناعة بذلك بعد أن تمكن من يقتلع خمسة عشر كرسيا إثر انتخابات عام&2014. وعلى مدى الخمس سنوات الماضية، ظل نوابه في مجلس الشعب، وهم خليط من البعثيين، والشيوعيين المتطرفين، يكررون نفس الخطاب السلبي الذي يذكر بماضيهم أيام كانوا طلبة بالجامعة يحلمون بإشعال ثورة عالمية تطيح ب"الامبريالية والنظم البورجوازية والرجعية &الفاسدة".& وفي كل مرة تحتد فيها الصراعات والأزمات السياسية والاجتماعية، كان حمه الحمامي وجماعته يظهرون ليؤكدوا من جديد أنهم منفصلون عن الواقع، وأنهم سادرون في أوهامهم فلا يتخلون عنها أبدا، معتقدين أن تحريضهم على الفوضى وعلى الاحتجاجات والاضرابات العشوائية &قد يكون كافيا ليعيد لهم الاعتبار، ويمكنهم من كسب أنصار جدد لتوسيع قاعدتهم الشعبية.&

وقبل الانتخابات الأخيرة بأشهر قليلة، برزت انشقاقات خطيرة بين قادة اليسار، خصوصا بين حمه الهمامي، والمنجي الرحوي الذي لا يقلّ تطرفا وجهلا عن رفيقه، وبينهم اشتدت المساجلات، &وحَمَتْ المعارك. وكل واحد منهم كان يتوّهم أنه سيكون منتصرا في الانتخابات الرئاسية والتشريعية. وما أظن أن الهزيمة الأخيرة التي حرمتهم من اقتلاع كرسي واحد في البرلمان الجديد سوف تخلصهم من أوهامهم، ومن "أمراض اليسارية الطفولية" بحسب تعبير لينين،& إذ أن حالهم بات شبيها بحال من سقط في هاوية عميقة فلن يتمكن من الخلاص منها أبدا.