لم تكن المظاهرات الأخيرة هي الأولى من نوعها ضد الفساد في العراق، فقد شهدت مدينة البصرة خلال صيف العام الماضي مظاهرات مشابهة نددت بالفساد وسوء الخدمات العامة، وطالبت بإجراء إصلاحات في جميع أجهزة الدولة وخلق فرص عمل للمواطنين. لكن المظاهرات الأخيرة غير المسبوقة في بغداد التي طالبت بمحاكمة الفاسدين، وحل مشكلة البطالة وتدني الخدمات العامة، تعتبر الأكثر دموية إذ اسفرت عن مقتل اكثر من 100 شخص واصابة اكثر من 6 آلاف آخرين بجروح وفق الإحصاءات الرسمية.

طبقا لتقرير مفصل اعده "معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى" نشر قبل أشهر، فقد قدرت إحدى الدراسات العراقية أن الفساد المالي يستنزف نحو 25% من المال العام. وقبل نحو عام اشارت وسائل الإعلام العراقية الى وجود حوالي 800 ملف متعلقبالفساد المالي والإداري قيد التحقيق. وتتفق المصادر الدولية على أن سجل الفساد في العراق قد ازداد سوءا في العقود الماضية، إذ صنفت منظمة "الشفافية الدولية" العراق في المرتبة 117 من أصل 133 دولة عام 2003م، قبل أن يتقهقر لاحقا إلى المرتبة 169 من بين 180 دولة. وغالبا ما يشير المعلقون السياسيون العراقيون إلى أن السبب الرئيسي للفساد في البلاد هو الطائفية، وتوزيع المناصب الرسمية او الحكومية بين الطوائف والجماعات السياسية بموجب ما يعرف "بالمحاصصة"التي جعلت الفساد أمرا عاديا ومقبولا في اغلب (ان لم يكن) في جميع المؤسسات العراقية، ورسخته في النظام السياسي العام، حسب تقرير "معهد واشنطن".

من يريد ان يعرف حجم الفساد في العراق منذ العام 2003م وحتى اليوم، عليه الذهاب الى لندن وباريس وبيروت ودبي، ليشاهد بعينيه كيف يعيش أبناء واقارب النخبة الحاكمة، وما يملكونه من الشركات والبيوت الفخمة والسيارات الفارهة ، بينما الشعب العراقي في اغلبيته يعاني من الفقر والبطالة، وشح المياه الصالحة للشرب والاستعمالات الأخرى، وانقطاع الكهرباءلفترات طويلة، والنقص الشديد في الأدوية، وارتفاع نسبة الوفيات بسبب سوء أوضاع المستشفيات. النخبة الحاكمة ومعظم رجال الدين المتنفذين لا يعرفون أوضاع المستشفيات في العراق، ولا يشعرون بمعاناة الفقراء والمسحوقين، لأنهم ببساطة يتعالجون في الخارج، ولا يركبون المواصلات العامة، ويملكون مولدات كهربائية خاصة بهم، تغنيهم عن كهرباء الدولة المقطوعة معظم الأوقات.

العراق الذي كان في بداية القرن الماضي ملاذ الكثير من الطلاب العرب للحصول على التعليم العالي والجامعي، تحول على أيدي الحاقدين والفاسدين والخونة إلى أرض يدمر فيها كل شيء، بدءا من الحضارة والآثار والعلم والأخلاق، إلى الهوية العربية والوطنية الجامعة للعراقيين عرب واكراد وتركمان وأيزديين. دخل العراق إلى دهاليز الخرافات والأحقاد التاريخية والدينية والمذهبية والإثنية.العراق، أرض اقدم الحضارات "بابل"، اصبح بلا هوية وطنية تجمع كل مكوناته العربية والكردية والآشورية. النظام السياسي الحالي حول العراق الى بلد تتقاسمه الانتماءات الطائفية والإثنية المتناحرة، حيث الولاء المطلق ليس للوطن بل للطائفة والعشيرة، الأمر الذي الغى كل مفاهيم السيادة والكرامة الوطنية، وفتح الباب على مصراعيه امام النفوذ الخارجي الدولي والإقليمي، خصوصا الأمريكي والإيراني.

فقد العراقيون الثقة في الطبقة السياسية الحالية، حيث أدركوا أن السياسيين والكثير من رجال الدين يستغلونهم أبشع استغلال. بسبب هؤلاء القادة الفاسدين تأخروا في التعليم والاقتصاد وكل ما يمت الى الحضارة بسبب، وتحولوا من دولة كانت في يوم ما على رأس قائمة الدول المتقدمة في الشرق الأوسط إلى دولة من دون سيادة، وشعب فقد الأمل في حياة كريمة. لقد أيقنوا أنهم تنازلوا عن كل ما يستحق في حياتهم لأجل اشخاص وأحزاب لا يستحقون هذه التضحية. ما يقوم به الشعب العراقي اليوم هو ثورة لاسترداد بلاده من المحتلين والفاسدين والإرهابيين والعملاء.