إن قلنا إن ثورة 17 أكتوبر اللبنانية أسقطت أوراق التين عن عورات الجميع في لبنان، يقولون هذا يهذي. حسنًا، فليكن هذيانًا لبنانيًا صرفًا، تحت العلم اللبناني وحده، الذي ما رأينا اجتماعًا "مطلبيًا" لبنانيًا جامعًا السبت 1.2 مليون نسمة، والأحد 1.5 مليونًا، منذ جلس سايكس وبيكو وقررا أن "كن لبنان فيكون".

وليكن هذيانًا وطنيًا بعيدًا عن الفئوية المتأصلة والطائفية البغيضة والمذهبية الكريهة واسطوانات التخويف من المد الشيعي حينًا واستعادة حقوق المسيحيين أحيانًا.

***

لنبدأ هذياننا هنا بمدينة صور. فها هي الألسن تلوك سمعة نبيه بري، رئيس البرلمان اللبناني منذ 37 عامًا، وحرمه السيدة رندة اللذين يتصرفان بإمارة لهما في صور والنبطية وجوارهما، وها هم الشيعة هناك يكيلون الشتائم لنبيه ورندة على رؤوس الأشهاد، من دون خوف أو تقدير عواقب، كما توضح مقاطع الفيديو التي تداولها اللبنانيون وما أكثرها.

تحولت الانتفاضة ضد الجوع إلى انتفاضة ضد مجوّعَي الشيعة، نبيه ورندة، ما دفع بحركة "أمل"، حركة بري وعائلته، إلى الدفع بعناصرها المسلحة لمواجهة المتظاهرين بالرصاص الحي، من دون أن يفلحوا في قمع من ثاروا على من يسموهم "جماعة الـ 51 في المئة".

غاب بري كليًا عن السمع، بعدما بدا له جليًا أن شيعته قاموا عليه وعلى سرقاته، ونادوا حسن نصرالله، منافسه بين الشيعة، أن يحميهم من جشع بري وتسلطه على مناطق الجنوب، ومن إطلاقه شبيحته لقتل الناس. غاب بري، وعندما خطب نصرالله في أربعين الحسين، غيّبته محطة "أن بي أن" – محطة نبيه بري – عن شاشتها أول مرة في تاريخها. واكتفى أل بري ببيانٍ خجول أصدره مكتب ما في حركة "أمل" يدعون فيه أنّ لا صلة لرندة بـ"استراحة صور" التي أحرقها متظاهرون جائعون أو مندسون. هذه ورقة التين الأولى قد سقطت، فالتقطوها.

***

في أول يومين من ثورة "17 أكتوبر"، كان الشبان الشيعة يقفلون مداخل الضاحية، عقر دار حزب الله ومثابة نصرالله، مشاركين في الثورة على السلطة. استمر الأمر على هذا النحو إلى أن خطب نصرالله خطابه في أربعين الحسين قائلًا إن لا علاقة لحزب الله بما يجري، حتى أنه جاهر بأن لا الحكومة ستسقط، ولا العهد، وسقوطهما في الأصل هو المطلب الأساس في هذه الثورة.

اللافت أن يكون نصرالله من يحمي الحكومة، ومن يحمي العهد، من صرخات المكلومين، حتى من أبناء طائفته ومن أبناء بيئته "المقاومة". واللافت أيضًا، في المقلب الثاني من الأمر أن يتقاطر الشيعة إلى بيروت ووسطها ليجاهروا هناك بما دسّ لهم أنه ممنوع باجتهاد نصرالله.

ففي بيروت، تعالت أصوات الشيعة ضد نصرالله، وفي بعلبك أيضًا، وفي حلبا العكارية، وصار النداء "كلن يعني كلن، ونصرالله واحد منن"، ما دام يحميهم السلطة التي أكلت أخضر الخزينة ويابس المال العام. وما خاف الشيعة أنفسهم من تسمية نواب حزب الله بين الفاسدين، بجرأة فاجأت الكثيرين، وحتى نصرالله نفسه.

في خطاب "الأربعين"، عيّن نصرالله نفسه صراحةً مرشد الجمهورية اللبنانية، محددًا من يتظاهر، ومتى يتظاهر، ومهددًا بأنه لو نزل إلى الشارع فسيغير المعادلات. لم يكن هذا غريبًا على نصرالله، فنفاقه في محاربة إسرائيل لن يشفع له بعد اليوم عند الشيعة انفسهم استغلالهم عاطفيًا لتنفيذ أوامر أربابه في طهران. وهذه ورقة التين الثانية، فالتقطوها.

***

في بيروت والمناطق المجاورة لها، سقطت أوراق تين بالجملة، أولها ما ستر عورة رئيس الحكومة سعد الحريري سنوات عدة. طالبوه بالاستقالة فما أراد الاستقالة، وطالبوه بالتخلي عن التسوية التي أتت بميشال عون رئيسًا للجمهورية وبه رئيسًا للحكومة، بحماية حزب الله ورهن إشارته، فما تخلى، إنما تمادى في غيّ أقرب إلى الغباء، لاعبًا دور ضحية التجاذبات اللبنانية، متوسلًا فرصة جديدة لحكومته العرجاء، طالبًا مهلة 72 ساعة متوعدًا بأن بعدها "كلام آخر".

من لا يعرف أن هذا الهروب إلى الأمام لن يؤدي إلا إلى تسريع سقوطه فواهم جدًا، ولا يعرف حركة التاريخ، ولا يدرك ما يمكن أن تفعله إرادة الشعوب متى توحدت. فهذه ورقة التين الثالثة قد سقطت، فالتقطوها.

وثانيها ما ستر عورات مسؤولين كثيرين في الحكومة، تقاذفوا كرة النار، ورمى كل منهم الآخرين بالتهم، على مرأى من الناس ومسمعهم، حتى أن بعضهم حاول ركوب موجة الاحتجاج بالاستقالة من الحكومة، والقفز سريعًا من المركب الغريق. فها هي ورقة التين الرابعة قد سقطت عن عورة سمير جعجع، فالتقطوها.

وثالثها، للأسف، هي ما ستر عورة "العهد القوي" كله. فرئيس الجمهورية ميشال عون غائب عن السمع، أحاط قصره الجمهوري الذي سماه زورًا "قصر الشعب" بالكثير من الأسلاك الشائكة وسرايا الحرس الجمهوري، مانعًا الشعب من الوصول إلى قصره، وتقديم لائحة مطالب إلى "بي الكل" كما يلقبه مريديه. فهل سمع عون المطالبة بإسقاطه التي ترددت ملايين المرات على وسائل الإعلام اللبنانية؟ وهذه ورقة التين الخامسة فالتقطوها، والتقطوا معها ورقة التين السادة التي سقطت معها، كاشفة عورة وزير خارجية صهر العهد القوي جبران باسيل.

ربما لم يُشتم إنسان في هذه الدنيا كما شُتم باسيل منذ الخميس الفائت، حتى أن المتظاهرين حولوا شتيمتهم باسيل إلى أغنيات على وقع الموسيقى الحماسية، وأناشيد ستبقى ماثلةً في الأذهان فترة طويلة. فباسيل ما غادر فرصة من دون أن يجيد استثمارها في تربية الأعداء، إن بخطابه الطائفي المستفز، أو بنبشه قبور الحرب الأهلية، أو بتسلطه على العهد والحكومة والتيار العوني، ومحاولته مد سلطانه على المسيحيين، وتدخله في شؤون الطوائف الأخرى.&

***&

أما ورقة التين الأخيرة، فهي الأصغر، ربما لأنها سقطت كثيرًا، ولم تعد تستطيع أن تستر عورة وليد جنبلاط، رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي والمتصرف الأول بشؤون الدروز. في ليلة الخميس، عندما شاهد جنبلاط غضب الشارع، دعا الحريري إلى "الاستقالة سويًا". وصار الكلام متداولًا على أن جنبلاط سيقيل وزراءه من الحكومة، ومتى أقال جعجع وزراءه أيضًا، سيكون سقوط الحكومة سهلًا.

أراد جنبلاط أن يضرب عصافيره كلها بحجر واحد: تسقط الحكومة، يخرج من قبضة حزب الله، يركب موجة الاحتجاج. لكن حساب الحقل الجنبلاطي لم يوافق حساب البيدر الشعبي. فالمحتجون مصممون على أن لا وجود لأي أحزاب في الحراك، لأن الحراك ضد الفئوية الحزبية، وتظاهرة صغيرة أطلقها الاشتراكيون قبل أسبوع لا تشفع لهم عند ملايين الناس الغاضبة اليوم.

إلى ذلك، وصلت رسالة نصرالله في خطاب أربعين الحسين، حين وجه سهامه مباشرة إلى جنبلاط، واتهمه بركوب الموجة، وهدده مواربة بـ 7 أيار جديد. لجم نصرالله جنبلاط، فتراجع هذا عن الاستقالة، متحججًا بورقة اقتصادية نعرف جميعًا أنها ستبقى حبرًا على ورق، شأنها شأن كل الأوراق الاقتصادية المتداولة اليوم. هذه ورقة التين الأخيرة قد سقطت، فالتقطوها.