ادارة ترامب وضعت منذ اليوم الاول شعاراً اعتبره البعض فضفاضاً الاوهو (امريكا اولاً). ولكن السنوات اللاحقة افضت الى ان هذا الشعار الذي اطلقه ترامب ما هو الا البداية لإعلان الولايات المتحدة لانتهاء دورها العالمي الذي بات مكلفاً ماديا ومعنوياً. الرئيس ترامب كرر في اقل من شهر ان التدخل الأمريكي في الشرق الوسط والذي كلف المليارات لم يكن سوى خطأ لا يجب تكراره في إشارة منه الى المليارات التي تكبدتها الولايات المتحدة في حرب العراق 2003. ثم عاد ليغرد عبر توتر بان "الحروب اللامنتهية يجب ان تتوقف" هذا لا يعني ان الولايات المتحدة سوف تتدخل لانهاء الحروب في الشرق الاوسط انه يعني ان الولايات المتحدة لن تتدخل بعد اليوم في حروب الشرق الاوسط وصراعاته.

يبدو ان الولايات المتحدة لم تعد تبحث عن عدو تتنافس معه جيوستراتيجاً كما كان الحال منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، انها الان باتت تبحث عن التنافس اقتصاديا مع عمالقة اقتصاديين كبار، في عالم لم تعد القوة العسكرية تعني دعماً للقوة الاقتصادية بل ان قوة المال والتجارة والاقتصاد هي القوة الوحيدة المهيمنة والفيصل الحاسم الذي يقرر من يحكم العالم.

ترامب ربما بات راغبا في ان يحذو حذو النموذج الصيني الذي ظلَ بعيداً عن كل الحروب والصراعات التي خاضتها الولايات المتحدة وانهكت فيها عسكريا واقتصاديا وسياسياً . حروب حطمت سمعة الولايات المتحدة وتنافسيتها في التجارة العالمية بنفس قوة تحطيمها للبلدان والشعوب المتصارعة في حروب لا منتهية.

ولو رجعنا بالتاريخ غير البعيد لوجدنا ان كل الصراعات التي حملت لوائها الولايات المتحدة كانت الصين وروسيا تقف فيها موقف المعارض في ساحات الأمم المتحدة ولكنها ايضا تعود لتجني المنافع والنوافل الاقتصادية بثوب ابيض حالها حال الامريكان وحلفائهم الذين يخوضون في وحل تلك الصراعات والحروب.

نعم الولايات المتحدة وحلفائها كانوا يجنون ثمار تلك الصراعات عبر تحكمهم بالنفط واسعاره وتامين طرق تصديره، وايضاً لا يجادل احد بان حروب الشرق الاوسط غير المنتهية جعلت الولايات المتحدة تتربع على عرش تجارة السلاح الى تلك المنطقة لعقود طويلة. ولكن العالم تغير والنظام الدولي لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية يلفظ أنفاسه الأخيرة، وحلفاء الامس لم يعودوا حلفاء موحدين بل انهم يخرجون من احلافهم التاريخية الواحد تلو الاخر ويبحثون عن حلفاء وشركاء جدد.

ايضا النفط لم يعد ذهباً اسود انه اليوم يتدفق من كل مكان ودول الشرق الاوسط الثرية نفطياً والمفلسة سياسياً ليس لها سوى ان تبيع باي سعر وباي وسيلة لتجني قوتها. اما السلاح فهو لم يعد تجارة مربحة كثيراً للولايات المتحدة بعد ان تغيرت وسائل التسويق ففي الماضي كانت تجارة السلاح تقوم بها الحكومات مع حكومات اخرى وتتم بين قادة وزعماء لتجهيز جيوش نظامية، اليوم وصلت هذه التجارة الى الحضيض فالدول صارت تبيع للسماسرة الذين يبيعون للمليشيات والتنظيمات جهادية تدفع اكثر بكثير من الدول والحكومات وبالتالي لم يعد الرئيس الأمريكي مضطراً لان يعبر البحار والمحيطات ليعقد صفقة مع هذه الدولة او تلك، ان السلاح بات يباع عبر الانترنيت لمن يريد.

مراقبة أداء الإدارة الامريكية يفضي الى استنتاج مفاده، ان الولايات المتحدة تغادر الشرق الاوسط وترامب ما هو الا البداية ثم ستتلاحق الإدارات الامريكية لتحذو حذوه عاجلاً ام اجلاً. الولايات المتحدة لن تسمح لنفسها بعد اليوم لان تتورط في حروب الاخرين ولن تسمح لنفسها ان تنفق المليارات في حروب خاسرة وغير منتهية ، ولن تدعم بعد اليوم أي طرف او جهة سياسية او اقلية عرقية او دينية مهما بلغ حجم الدور او الولاء الذي قدمته للوجود الأمريكي في يوم ما، بل ان بعضهم أصدقاء مخلصين مجانيين لأعداء الولايات المتحدة الإقليميين.

الموقف الأمريكي غير الفعال امام تنامي دور ايران في العراق الذي يبدوا وكأن الادارة الامريكية تستعد للرحيل نهائياً من العراق وانها لم تعد تولي الملف العراقي أي اهتمام .انه فراغ ستنتهزه ايران لتملأ الفراغ&العسكري الأمريكي في العراق بعد ان استطاعت ان تؤسس لها نفوذا سياسياً وامنياً مدعوماً من قبل القوى الحزبية والدينية العراقية نفسها تلك التي جائت راكبة على ظهور الدبابات الامريكية بعد الغزو الأمريكي للعراق ثم سرعان ما تخلت عنهم الإدارات الامريكية كما تخلت عن عارها في العراق.

كذلك تركيا التي ايضا تحلم بعودة إمبراطوريتها في الشرق الاوسط عن طريق العثمانيين الجدد. ولكن العثمانيين الجدد في المنطقة العربية ما هم الا &تلك التنظيمات إسلامية التي تم تربيتها ودعمها في اوربا والولايات المتحدة لتكون شكلاً من اشكال الاسلام السياسي الحديث الذي "يتمكيج" بقيم الديمقراطية الغربية ليخفي ملامحة البرغماتية المشوهة والمبتورة والمتطرفة. تركيا كذلك تبني وتدعم نفوذ سياسي في المنطقة وهي متأهبة لكي تحل محل أي فراغ عسكري امريكي، وهذا ما تجلى مؤخرا في عملية "نبع السلام" التي هي فرصة تركيا لكي تعيد ترتيب الأوضاع الجيوستراتيجية لصالحها في سوريا بعد ان اضطرت مرغمة لان تتخلى وقتياً عن مخططاتها في سوريا تحت الضغط الأمريكي، واختلاط أوراق اللاعبين الدوليين في سوريا ابان المعارك ضد داعش. صراع النفوذ والقوة الذي تتقاسمه ايران وتركيا واطراف إقليمية اخرى في الشرق الاوسط يدل على ان إمبراطوريات الشرق القديمة عادت من جديد لتحل محل إمبراطوريات الغرب المتقهقرة، انها في غاية الشراهة لتعيد التاريخ في الشرق الاوسط الى نقطة البداية.

بالمقابل فان الولايات المتحدة باتت تدريجياً تفقد شهيتها في ان تكون امبراطورية تهيمن على جيوسياسية العالم وتتحكم في ارضه وبحارة وسماواته. انها لم تعد تخفي رغبتها في ان تكون نداً اقتصاديا متفرداً يضارب في العالم الرقمي ويتاجر بكل أنواع السلع ويبيع لجميع الزبائن سواء كانوا من كوريا الشمالية و ايران المارقة او من سويسرا.

قد يكون التخلي عن عرش الشرق الاوسط في مراحله الأولية فالتخلص من أجيال المتحمسين للدور العالمي داخل البيت الأبيض ليس بالأمر السهل والتخلي عن التركات والالتزامات والابناء المخلصين والربيبات في الشرق الاوسط وغيره من أماكن النفوذ ليس الا في مراحلة الأولية وهو يحتاج لسنوات طويلة وتصفية للحسابات المتراكمة. ولكن مع هذا لن يكون بعيداً ذلك اليوم الذي ستتحول فيها التحالفات والقواعد الامريكية في الشرق الاوسط وأماكن اخرى في العالم الى اطلال ومتاحف وقصص نقصها لأحفادنا ربما سيصدقونها او سيتهموننا بالخرف خاصة عندما سنقول لهم ان الولايات المتحدة صرفت المليارات في حرب العراق&٢٠٠٣ لتسهل في النهاية امتداد النفوذ الايراني، او نقول لهم اننا افلسنا ونحن ندفع المليارات للجنود الامريكان لننتهي في النهاية الى دويلات تتمزقها تركيا وايران.