على عكس البحث في مصير تنظيم&"القاعدة"&بعد مقتل أسامة بن لادن في الثاني من مايو&2011، حيث تباينات آراء الخبراء والمحللين وقتذاك حول نهاية التنظيم من عدمه، اتفق الجميع بالأمس عقب إعلان مقتل أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم&"داعش"&على أن اختفاء البغدادي لا يعني نهاية التنظيم.

للتجارب السابقة مع تنظيمات الإرهاب المعاصرة أثر مهم بالتأكيد في هذا الاتفاق والاجماع.

وفي اقتفاء أثر والبحث في مآلات&"داعش"، وفي تفسير ذلك هناك اتجاهات عدة منها ما يراه الكثيرون من أن أيديولوجية الفكر الإرهابي تعيش في حواضن مجتمعية توفر لها سبل البقاء، بحيث تعيش دورة حياتها بين مد وجزر، وتمدد وانكماش، وهذا التفسير صحيح إلى حد كبير وينطوي على أهمية لا يمكن اغفالها، ولكنها ليست، برأيي، العامل الوحيد في استمرار بقاء&"القاعدة"&على قيد الحياة حتى الآن، ولن تكون، بالتالي، العامل الأوحد في استمرار&"داعش"&وبقائه على قيد الحياة رغم مقتل مؤسسه، كما يقول الجميع.

إذا، ماهي الأسباب الأخرى التي تغذي بقاء تنظيمات الإرهاب على قيد الحياة؟!&باعتقادي الشخصي أن الأفكار لا تموت بموت أصحابها وهذا صحيح، ولكن من قال إن البغدادي، ومن قبله ابن لادن، هما أصحاب فكر أيديولوجي قابل للتوارث والانتقال بين الأجيال؟ الحقيقة أن البحث في مسألة الفكر الأيديولوجي ربما يبدو بصورة أوضح في نموذج البغدادي، الذي تجمع الكتابات على أنه&"زعيم بالمصادفة"، وأنه مجرد&"ستار"&أو واجهة لمجموعات من المنتفعين والمتاجرين بالشعارات الدينية من أجل تحقيق أهداف سياسية ومصالحية، وهؤلاء المنتفعين ربما يكونوا أفراداً أو مجموعات مصالح أو أجهزة استخبارات ودول أو كل هؤلاء معاً حين تتلاقى المصالح والأجندات الخفية والمعلنة!&فالبغدادي لم يعرف عنه الزعامة ولا القيادة بل كان، كما وصفه من عرفوه في فترات سابقة من حياته، شخص انطوائي محدود الثقافة والعلم الشرعي، وهو ما يفسر إلى حد كبير عدم ظهوره سوى مرتين فقط في لقطات فيديو مصورة طيلة السنوات التي ملأ تنظيمه فيها الدنيا ضجيجاً وقلقاً، علاوة على استعانته بمفتي خاص للتنظيم لإبداء الرأي الشرعي في المسائل الفقهية، ما يعني أن البغدادي لم يكن، باعترافه، مؤهلاْ كزعيم ديني، وهي الصفة الوحيدة التي ربما تسوغ له قيادة التنظيم في ظل افتقاره للخبرة العسكرية والإدارية وأي خبرات أخرى يتطلبها دوره كقائد لدولة مزعومة منحت لنفسها ـ في يوم ما ـ &الولاية على نحو سبعة ملايين من البشر ومساحة من الأرض تبلغ نحو ربع مليون كم مربع!

ثمة سبب آخر في تغول&"داعش"&وانتشاره يتمثل في تحول الإرهاب إلى&"بزنس"&ومصدر ارتزاق لعشرات الآلاف من الشباب الحالمين بدولة أو إمارة تسكن خيالهم وثقافتهم الدينية المحدودة، وهؤلاء وجدوا في دعاية&"داعش"&وأساليب تجنيدها القائمة على الاغراء بالراتب والسكن والزوجة ناهيك عن&"السبايا"&والعيش الرغيد وغير ذلك مما احتوته مضامين فيديوهات التجنيد الداعشي، التي انتشرت في فترة من الفترات على الانترنت، ونافست في جاذبيتها دعاية الشركات العالمية عابرة القارات في تجنيد ذوي المواهب والمبدعين من كل أرجاء العالم!

من ينكر دور الدعاية المفرطة في جلب آلاف الشباب إلى مناطق نفوذ&"داعش"&عليه أن يقرأ بعض الكتب والمذكرات التي تناولت هذا الموضوع، ومنها كتاب&"كنت في الرقّة:&هارب من الدولة الإسلامية"، للمؤلف التونسي هادي يحمد، والذي يحكي كيف صُدم شاب تونسي&"هاجر"&إلى أرض التنظيم ظناً منه أن عجلة الزمن ستنقله بمجرد عبور الحدود الجغرافية من تركيا إلى زمن الخلافة الراشدة، والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين.

وسواء كان السبب كامن في البيئة الحاضنة أو مخططات جاهزة أو حتى استقواء التنظيم بالدعاية وتضخمه من خلالها، فإنه في الأحوال جميعها يبقى&"داعش"&مصدر تهديد للدول والشعوب، وستبقى الفكرة ذاتها تراود الكثير من المغامرين والمهووسين والجهلاء والمغرر بهم، سواء لأن التاريخ لم يخل في أي مرحلة من مراحله من مثل هذه الممارسات والأفكار وإن تراوحت شدتها وحدتها وتأثيرها تبعاً للظروف الزمنية والسياسية وغير ذلك من عوامل&"النفخ"&في الفكرة أو توظيفها أو استخدامها وغير ذلك، أو لأن هناك من الأسباب المجتمعية، ما يسهم بدرجات مختلفة في ظهور التشدد والتطرف الديني في كل مرحلة زمنية قديماً وحديثاً، ناهيك عن أن سوء الإدارة وفشل التنمية في المنطقة العربية والإسلامية كفيل بتهيئة عوامل البقاء لمثل هذه الأفكار الكارثية.

الحقيقة أن استمرار&"القاعدة"&على قيد الحياة لا يعني أنها بنفس قوتها وخطورتها، فالتجارب علمتنا أن التنظيمات الإرهابية ينسخها بعضهاً بعضاً، وأن الجديد يقضي على الكثير من&"جاذبية"&ـ إن صح التعبير ـ القديم، فالقاعدة قضت على جاذبية أجيال سابقة من تنظيمات الإرهاب بانتقالها من المحلية إلى العالمية، وداعش قضى على نفوذ القاعدة عبر منهج&"إدارة التوحش"&وبناء مازعم أنه&"خلافة إسلامية"&بدلاً من جدلية العدو القريب والبعيد، وأيهما أولى بالمواجهة، كما كان ابن لادن يركز من قبل.

الثابت في مجمل الأحوال أن الخلاف بين تنظيمات الإرهاب واجيالها هو خلاف تكتيكي وليس استراتيجي، فهو خلاف حول الأسلوب والمنهج والتكتيك المستخدم، وهو خلاف ينتج خلافاً موازياً حول الزعامة والقيادة بناء على سلامة التفكير وبالتالي صحة العقيدة!&ومن ثم فالأرجح أن يظهر من يرفض النهج الداعشي ويسقط نظرية الخلافة و"إدارة التوحش"، ويفضل العمل السري والتخفي مجدداً، أي إعادة دورة حياة الارهاب إلى أصلها ومبتداها بعد فشل تجربة ظن البعض انها ذروة نجاح هذه التنظيمات.