عندما تُنزع الرحمة من القلوب.. وتحتضر الإنسانية فوق مقصلة الجبروت.. وتنهار قيمنا الاجتماعية أمام قسوة الظروف وآهات الفقر.. وتتعرض مبادئنا لأمراض التصدع والانهيار، لابد وأن نرى مثل هذا المشهد الحزين لشابين تم الإلقاء بهما من القطار، ليلقى أحدهما حتفه من دون ذنب، ويصاب الآخر بكدمات متفرقة في أنحاء جسده ليحالفه الحظ ويبقى على قيد الحياة، ضمن قصة لا يستوعبها عقل ولا يقرها منطق.. مع ذلك فهي تسير بنا إلى ثلاث مناطق «مظلمة»، الأولى تتمثل في «كمسري» مات ضميره، وفقد إنسانيته أمام شابين، كل جريمتهما أنهم من طبقة الفقراء التي تنتعل «حذاء الحاجة»، وتعيش على حد الكفاف، ولم يعترف هذا «الكمسري» بآدمية هذين الشابين ونزع عنهما صفة الإنسانية، وأصر على التخلص منهما بإلقائهما من القطار السائر بلا بصيرة..!

والمنطقة الثانية تتعلق بالشابين نفسهما، واللذين اضطرا أمام إصرار هذا الكمسري الأحمق إلى طاعته، والقفز من القطار نتيجة ارتكابهما لجريمة ارتداء جلباب الفقر والعوز، فكان جزاؤهما أن يتم نبذهما والتخلص منهما خارج قطار لا يحتفظ سوى بالقادرين الذين تنتفخ جيوبهم بالمال، وتخلو نفوسهم من المروءة..!

وترتبط المنطقة الثالثة بالركاب أنفسهم، الذين شهدوا الموقف وبداية القصة منذ ولادتها على متن هذا القطار، وكيف أنهم صمتوا على جريمة أوشكت على الحدوث، تقترب من القتل مع سبق الإصرار والترصد، وترقى للجريمة المكتملة الأركان، هل فقد الركاب عقولهم ليجلسوا في مقاعد المتفرجين في صمت قاتل، أم أنهم فقدوا مروءتهم تحت عجلات القطار، وأمام «كمسري» الموت، الذي رفض منح الشابين تذكرة حياة. واختار منحهما تذكرة قتل على رصيف الحاجة، بعد أن رفض الركاب مساعدتهما بالقليل من المال، لإنقاذهما من غطرسة «كمسري» أعمى البصيرة؟!.

هذه الجريمة البشعة التي هزت الشعب المصري لا يتخيلها عقل، لأنها تسير ضد تيار المنطق، ولا تتفق مع صفات البشر، ولا تتماشى مع مجتمع رحيم بالغير، وله نصيب من الشجاعة و«الشهامة» و«الجدعنة» التي تعتبر من صفات الملايين من أبناء االمصريين منذ قديم الأزل..؟!

إذن، ماذا حدث؟، هل هناك تصدع أصاب المواطن المصري، ووضعه في دائرة الأنانية وحب الذات؟.. هل أصبح المواطن في ظل المعاناة الحياتية، منفصلاً عن مجتمعه، وبات يعيش في جزيرة منعزلة مع أسرته ولا يبالي بكل ما هو خارج محيطه؟.. هل ماتت ضمائرنا بعد أن ماتت الفرحة في قلوبنا نتيجة «سحلنا» تحت عجلات العَوز بفعل فاعل؟.. هل توحش المواطن المصري وفقد إحساسه بأخيه المواطن لدرجة تركه ينتحر تحت عجلات قطار مجنون؟.. هل الدولة مسؤولة عن وضعنا في دائرة الموت، وما علينا سوى انتظار الأجل على رصيف الحياة؟.. هل قسوة الحياة دفعتنا للعيش بلا قلب، حتى نستطيع مواجهتها بسلاح اللا مبالاة؟!

تساؤلات وتساؤلات.. تضعنا أمام كبد الحقيقة، وتدق ناقوس الخطر لمجتمع يرقص كالطير الذبيح فوق ميزان العدالة المفقود..!، تساؤلات تدفعنا إلي البحث عن «آدميتنا» التي فقدت معناها وغرقت في بحر الاستبداد..!، تساؤلات تدعونا إلى احتضان بعضنا البعض، بعد أن افتقدنا حضن الوطن الدافئ..!، تساؤلات تذكرنا بأننا لسنا بشراً نسير بأقدام الخطايا نحو عالم مجهول، وأصبحنا في أمس الحاجة كي ننتصر للإنسان الذي بداخلنا، بعيداً عن الحيوانية التي تقودنا للعنف، وتضعنا في خانة «الدم الرخيص»، و«الموت المجاني».