انضم الكاتب اللامع ووزير الثقافة والاعلام الاردني السابق صالح القلاب الى إيلاف كاتباً ومحللاً بمقالات دورية. وإيلاف إذ ترحب به تفتح صفحاتها لمقالاته وآرائه الرصينة في السياسة والثقافة عربياً وإقليمياً. هنا أول مقالات الاستاذ صالح القلاب في إيلاف:

قبل نحو ثمانية عشر عاماً فأجأنا زميلنا عثمان العمير، الذي كنت أحد الذين عرفوه&عن قرب إن عندما كان رئيس تحرير&مجلة "المجلة"، التي كانت وبحق سيدة المطبوعات العربية الأسبوعية، وإن بعد ذلك عندما أصبح قائد سفينة "الشرق الأوسط" التي عرفت في عهده إنتقالة نوعية هائلة حيث أصبحت تقدم لكبار المسؤولين على مائدة الإفطار كل صباح.. أقول فاجأنا هذا المغامر والمشاغب المحبوب بـ"صرعة" جديدة إختار لها عنواناً لم يخطر على بال غيره هو "إيلاف"&: "لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا ربّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف".
كانت،&في تلك المرحلة،&قد&بلغت صحافة الأوراق البيضاء والخضراء و"الصفراء" أيضاً ذروتها وكان هذا الوافد الجديد غريباً علينا فقد إعتدنا&على أحبار المطابع وعلى "الجرائد" السمينة والغثة وكان عالم الـ "كومبيوترات"&قد أشرقت شمسه لكنها لم تكن قد إرتفعت&بعد&وهكذا فإنني كنت أحد الذين إعتبروا&أن&هذا "المشاغب"&الكبير&مجرد مغامر كعادته وأنه حتى وإن طال الزمن سيكتفي من الغنيمة بالإياب لكنني وقد تابعته عن قرب وعن بعد وتابعت هذه الظاهرة الغريبة بالكثير من الريبة وعدم الإستيعاب الكافي فقد أدركت أن هذا الذي رأى النور&في&"الزلفي"،&ولن أقول أي عام، قد إستوعب مستجدات عالمٍ&جديد وأنه سبقنا وسبق غيرنا في السير على هذا الطريق&الذي بات يصل إلى تشعبات كثيرة!!

والمؤسف حقاًّ أن إنشغالاتي الجدية والعبثية قد أبعدتني كثيراً عن هذا الصديق والزميل الطيب الذي ليس هناك من أمثاله&الكثير&في هذا العالم المتقلب الأحوال والذي ينطبق&عليه، أي على عثمان،&ما&كان&قالته العرب، عندما كانوا عرباً بالفعل،وهو:
أقسمت أن المستحيـل ثلاثــة&

الغول والعنقاء و"الخلُ&الوفي"

لكن هذه الإنشغالات لم تبعدني عن "إيلاف" التي توطدت علاقتي بها مع&الأيام وأصبحتُ&من "مدمنيها" وحيث بقيت أرى "عثمان" بـ"شغبه" وبـ "صرعاته"&في زواياها ودهاليزها وأيضاً حيث أدركت مع الوقت أنَّ هذا الصديق العزيز قد إلتقط "اللحظة التاريخية" قبلنا بنحو عقدين من الزمن وأنه عندما وضع أقدامه على بداية هذا الطريق الذي كنا نرى أنه سيأخذه إلى المجهول كان يدرك أنه قد إنضم إلىمسيرة&العصر وأن هذا العالم الجديد هو هذا العالم الذي ترك خلفه، صحافياًّ وإعلامياًّ، هدير المطابع وأحبارها وأوراقها وأنَّ&الكرة الأرضية لم تعد بذلك الحجم الهائل وأنها غدت بحجم برتقالة وأن أسرار الكون وأخباره&قد أصبحت&سهلة المنال وأنه&بالإمكان إلتقاطها بـ "نقرة" إصبع على صفحة فولاذية رقيقة.

&كنت في الفترة الأخيرة قد أمضيت نحو ثلاثة أسابيع في لندن وكانت المفاجأة التي أذهلتني وأحزنتني.. وأيضاً أقنعتني أن عالماً جديداً قد حلّ محل عالمنا القديم فشارع "هاي ستريت كنزنغتون" الطويل العريض،&الذي يبدأ من نهايات الـ "هايد بارك" الشهيرة&وينتهي عند الـ "هامرسميث" في الجهة الأخرى، قد&إختفت فيه رفوف الصحافة الورقية&ومن بينها&صحيفتنا&"الخضراء" التي بعد بحث مُضْنٍ لم أجد إلاَ عدد قليل منها في "دكان" تديره&بتثاقل&سيدةٌ&ذات&أصول آسيوية جاءت من إحدى دول الشرق البعيد.

في ليلة ذلك اليوم تذكرت عثمان العمير وكان لي لقاء معه في منزله&الجميل في& بناء لا يبعد إلاَ عشرات الأمتار عن&موقع&هيئة الإذاعة البريطانية الـ "B.B.C&"&السابق&التي كنت قد عرفتها خلال فترة أصبحت بعيدة والتي من خلالها تعرفت على العديد من القامات الإعلامية العربية الشاهقة&التي تلاحق رموزها&في مغادرة هذه الدنيا الفانية رحمهم الله جميعهم وألهم أبناءهم وأحفادهم الصبر والسلوان.

لقد وجدت أن "عثمان" لا يزال هو..هو&بصخبه وبطيبته و"بقفشاته" السياسية وبشعره المنكوش ووجدت أن بيته بات يخلو من صديقي العزيز&"تيجي"&الذي كانت صورته الفارهة الجميلة تتصدر أهم جدران&بيته&السابق&الذي&لا&يزال&يجاور حديقة فارهة تسرح وتمرح فيها قطعان غزلان ربما أن بعضها قد أُحضر في زمن&أصبح بعيداً من إحدى "صحارينا"&القاحلة&التي بالنسبة لي وربما بالنسبة لغيري كانت جميلة ولا تزال جميلة.

في تلك الليلة التي كانت قد أعادت لي ذكريات مرحلة سابقة&أصبحت&بعيدة&جداًّ&لم نتحدث لا عن الصحافة ولا عن الصحافيين ولقد غادرت منزل صديقي "عثمان"&في الهزيع الأخير&من الليل&وأنا أشعر إنه علي أنْ التحق بالعالم الجديد.. وهكذا إلى أن جاءت اللحظة المناسبة بعد عودتي إلى "عمان"&التي تغيرت كثيراً عما كانت عليه&وحيث&لم تكن تعرف&بيت الشعر القائل:

أقسمت أن المستحيـل ثلاثـة

الغول والعنقاء و"الخل الوفي"!!

تناولت الهاتف في لحظة كانت تراودني فيها هواجس كثيرة وأبلغت "عثمان" بأنني أريد الإنضمام إلى "إيلاف" ليس ليطعمني الله من جوع&ولا&ليؤمنني من خوف&بل لألتحق بقافلة الإعلام الحضارية وهذا مع التأكيد&على&أنني سأبقى أحنُّ إلى هدير المطابع وإلى "الأوراق الخضراء" التي لا أزال أحرص على أن تتجول عينيّ بين صفحاتها في صبيحة كل يوم&من أيامنا التي غدت بمعظمها تعيسه!