لم يعد 17 تشرين الأول 2019 اليوم الذي تبدّل فيه مشهد الشارع اللبناني من خاضع لإرادة السياسيين إلى منتفض عليها وحسب، فهذا التاريخ كان البداية لسقوط سلطة سياسية أمعنت فساداً.. في الشارع... وتطوّر شعار هذا الشارع من "ارحلوا لا ثقة بكم وبكل ما تطرحونه" إلى توجه شعبي نحو الضغط والمحاسبة.

ملفات فساد كثيرة فتحت، وما كان مجرّد أخبار متناقلة أصبح أسماء وأرقاماً مكشوفة، قُلبت الطاولة.

اذا لخّصنا ما تكشّف في أقل من شهر على رزنامة الزمن، نقدّر أين ذهبت مليارات الدولارات وكيف وصل البلد إلى انهيار اقتصادي، يبدو بات وشيكاً جداً.. وهذا كاف لزج الكثير من الرؤساء والوزراء في السجون!

ولكن بمطالعة بسيطة لآليات المحاسبة التي فصّلها السياسيون على مقاس يناسبهم، نجد أن المحاسبة الفعلية أبعد بكثير من استعراض الإخبارات التي يتقدّم بها بعض المحامين لذر الرماد في عيون الشعب، وإيهامه بالمحاسبة.

من يحاسب الرؤساء والوزراء؟ قانوناً، المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء؛ وببحث بسيط حول تشكيل هذا المجلس وصلاحيته، نجد أنه واجهة شكلية استعراضية، وعملياً لا يحاسب ولم يسبق أن حاسب أحداً.

المحاسبة تتطلب أولاً رفع الحصانة عن المسؤول والذهاب بملفه إلى القضاء، ولكن فعلياً ورغم كل روائح الفساد التي انبعثت، لم تُسقط أي حصانة عن أي مسؤول... علماً أن هناك أشياء ظاهرة كعين الشمس مثل الـ 11 مليار دولار التي تبخرت بقدرة قادر!

أما في ما يخص القضاء فلم يعد سراً أنّ القضاء اللبناني مسيّس، وكشفت الكثير من التقارير الصحافية فساد الكثيرين في الجسم القضائي، إن لناحية الرشوة أو المحسوبيات.. وعليه مقولة العدل أساس الملك لا تسري على الهيئة القضائية.

بالعودة إلى الشارع، اعتادت السلطة السياسية تشتيته بالعصبيات الطائفية ونجحت كثيراً، إلا أن ثورة 17 تشرين الأول أسقطت هذا المحرّك...

لجأت السلطة إلى الاشاعات واستخدام إعلامها لتشويه صورة الانتفاضة الشعبية وشيطنته، ولكن ذلك سقط أيضاً...

جاء من يهوّل بحرب أهلية، فخرج الشارع مجدداً ليسقط هذا التحليل، فلبنان لم يكن يوماً موحداً بنبضه كما هو عليه الحال منذ انتفاضة شعبه ونزوله إلى الشارع.... إلا اذا كان هناك من سيرد على ما لا يعجبه من تطورات بفرض حرب بسلاحه، كما حصل في 7 أيار.

هذا على خط الخطابات وردود الشارع، إلا أن هناك واقعاً معيشياً ضاغطاً جداً، فلأول مرة نشهد انقطاع المحروقات من الأسواق اللبنانية، تمر على أكثر من محطة وقود وتجدها مغلقة... الضغط الثاني هو من خلال شح السيولة النقدية في المصارف اذ يواجه اللبنانيون عقبات في سحب أموالهم، وتحدث صحفيون اقتصاديون عن تهريب مليار ونصف مليار دولار إلى الخارج أول أيام الانتفاضة، من بينها أموال معظم أصحاب المصارف.

كل هذه التطورات والسلطة السياسية تعيش حالة نكران للواقع، ولا يزال وزراء التيار العوني يستخدمون الوعود لتخدير الناس، علماً أنه لم يتحقّق أي من الوعود السابقة التي قطعوها.. تأمين الكهرباء 24/24 مثالاً، والتي وعدنا بها الوزير المقال في الشارع جبران باسيل، منذ توليه مهام وزارة الطاقة..أي منذ عشر سنوات ولا تزال الوعود مستمرة دون نتيجة!

انسوا الكهرباء المقطوعة، هناك نفط... هذا ما لجأ اليه وزراء التيار لجذب الناس وتخديرهم مجدداً!

وفي كلمة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في الذكرى الثالثة لانتخابه، لفت إلى أن لبنان سيدخل بعد شهرين (من تاريخ الخطاب في 31 تشرين الأول) نادي الدول المنتجة للنفط، بعد أن أصّر على إقرار الحكومة مراسيم استخراج النفط والغاز، ما سيؤمن متنفساً اقتصادياً على المدى الطويل بحسب عون.

مؤسسة مهارات وفي خدمة Fact-o-meter التي تقدمها وتحقّق من خلالها بالتصاريح والوعود التي يقطعها المسؤولون، طرحت صحة دخول لبنان نادي الدول المنتجة للنفط، للتدقيق.

وكانت نتيجة التحقّق من هذا الوعد، والذي عادت وأعطته وزيرة الطاقة، بأنه غير صحيح بناء على المعطيات التالية بحسب مهارات:

- أولاً الحفر يستمر 55 يوماً قبل أن تظهر النتيجة، وتؤكد الخبيرة في قطاع النفط والغاز لوري هايتايان أن هناك ما نسبته 20 – 25% احتمال لايجاد كمية قابلة للاستخراج والاستفادة منها، وهذا لا يعني أن مباشرة التنقيب ستجعل لبنان دولة منتجة وأننا سنجد الغاز.

- أما في ما يتعلق بتأمين متنفس اقتصادي على المدى الطويل. اذا كانت النتيجة ايجابية، الخوف هو من تعاطي ونهج الحكومة التي سيتم تشكيلها. ويتمثل الخوف بحسب هايتايان في غياب الرؤية الاقتصادية الواضحة وإمكانية لجوء السلطة إلى الاستدانة من الخارج على أساس أن لديها كميات من الغاز قابلة للاستخراج، ما يؤدي إلى ما يعرف بلعنة ما قبل الموارد.

- هذا عدا عن ضرورة إعادة التفكير بقانون الصندوق السيادي وضمان شفافيته ووضوحه حتى لا يتم هدر الأموال التي ستُجنى، في ظل عدم وجود رؤية واضحة لكيفية دعم الاقتصاد من الأموال التي سيدرّها النفط في حال وجوده.

وهكذا يسقط وعدنا ببلد نفطي قريباً، وأصلاً الشارع ما عاد يُخدّر بالوعود لأن الاشكالية باتت في منظومة فاسدة لا ثقة فيها!

"صار وقت نحاسب" هكذا يقول صوت الشارع، والملفات كثيرة للمحاسبة، منها ما كُشف ومنها مازال مستوراً... ولكن العبرة في النتيجة، من سيُحاسب، مَن وكيف؟

النائب والوزير السابق المحامي بطرس حرب أعلن عبر مقابلة تلفزيونية أنه سيتقدم من النائب العام التمييزي بإخبار عن الفساد المستشري لدى معظم الطبقة السياسية في السنوات الأخيرة، على أن تشمل التحقيقات كل السياسيين ومن بينهم حرب نفسه وتجميد كل حساباتهم لمدة سنة حتى انتهاء التحقيق.

تبدو هذه الخطوة جيدة، اذا سلمنا بحس مسؤولية مشرّع ومسؤول سابق، ولكن الاخبار وحده لا يُجدي نفعاً ما لم يلق تحركاً جدّياً من القضاء، خلافاً للمتعارف عليه بوضع الملفات في الأدراج... والنقطة الأهم: تجميد أي حسابات؟ في الوقت الذي بات معروفاً أن الفاسدين، غير تهريب أموالهم إلى الخارج، يعتمدون على الواجهات المالية لشراء العقارات والشركات وتبعاتها. اذا المسألة أكثر تعقيداً من مجرّد إخبار إلى القضاء..

من المؤكد أن ما قبل 17 تشرين الأول 2019 ليس كما بعده، لا أمل بالساسة ولكن الرهان على نفَس الشارع وقوة ضغطه حتى تحقيق مطالبه كاملة، وأهمها اسقاط منظومة فاسدة استنزفت البلد على مدى ثلاثين سنة، محاسبة رموزها، واسترجاع ولو بعضاً من الأموال المنهوبة!