ثورة شعب العراق ولبنان قلبت موازين الثورات وأعلت من قيمة التعبير الفني والسلمي في مواجهة الظلم والعنف والسرقات. هزت الثورات عرش الفساد بالصوت الجماعي المشترك الثائر في الساحات مطالبا بالعيش الكريم والحاجة الى الحريات، ومن خلال ضرورة القضاء على الفساد وإقالة المفسدين واللصوص عن ساحة الأوطان المستباحة إما بأيدي أبنائها أو تحت سطوة القوة الخارجية الساعية للسرقة بطرق مختلفة. هذه ثورات لا تشبه غيرها ولا تقلد أحداً في التاريخ القديم والحديث. إنها مرحلة ابداع جيل مختلف من الشباب والنساء. جيل يكتب تاريخا شفاهيا مقاوما بالصوت والصورة والإصرار على خلق فرصة للعيش الكريم المشترك بين كل الطوائف والطبقات والأديان. آن الاوان أن نسمع عن (مقبرة الطائفية) من كلمات جيل التكنولوجيا والهواتف الذكية التي أصبحت سلاحهم ووثيقتهم المنقولة بالصوت والصورة الى العالم أجمع وبالسرعة القصوى.

صور من ساحات العراق&
تذهلني ابداعات المتظاهرين الثائرين المطالبين بعيش كريم. أقبّل يد تلك المرأة العراقية التي تصنع الخبز في ساحة التحرير وتوزعه على العابرين دون أن تنظر إلى هويتهم. الخبز للجميع. كما الوطن وكما خيرات البلاد وأشجاره وأنهاره ومنتزهاته.&
أشهق من فرح ومن حزن وتهزني أهازيج امرأة أخرى متقدمة في السن، تحمل المايكروفون وتصدح بصوتها لشحذ الهمم وهي لأكثر من شهيد.&
الأمهات الطيبات الصبورات، ملح الأرض وإذا فسدن فسدت الدنيا. طوبى للأمهات، وهن يصنعن جيلاً يصنع ثورة.&
اتتبع أخبار امرأة أخرى كانت تقف مع المفرزة الطبية لتضمد جرح الوطن، فيخطفونها لأن جمالها يؤذيهم، ويدها الماهرة المدربة على تضميد الجرح ستحفر قبوراً للظلم. تغيب البنت عن أمها وأختها، فيصير لها كل عشاق الحرية أخا وأباً وصوتاً يطالب بعودتها وإطلاق سراحها.&
وأعود لأقرأ لوحات الفنانين من الشرق ومن خارج البلاد يوثقون الحدث فأشعر بقوة الإرادة عند هذا الجيل وأرى عنجهية القيادات التي تزيد من رسل الموت بين الشعب وترفض والتنحي جانبا. أما كل من قبل التنحي والاعتزال، فلا شك انه انحاز إلى صوت الإنسان ومطالب الشعب. المفارقات هائلة بين شرق وغرب، فالرئيس البوليفي أعلن استقالته تحت ضغط مطالب الشارع والمتظاهرين. وحده الحاكم في الشرق، لا ينزل عن عرشه إلا بعد أن يقضي على ما تبقى من الشباب والعمران والبنى التحتية. كما انه في الان ذاته يمهد لدخول الجوار والاجنبي والغربي للمشاركة في البناء من جديد والسرقة من باب اخر.
يهزني ويبكيني عدد الشهداء في سوريا وفي لبنان والعراق فلا يعقل أن تقول لي أو له، اكتم صوتك فذاك البلد لا يعنيك، ليس بلدك. فمن شمال القطب استيقظ لاسمع انفجارات في مدينة القامشلي في الجزيرة السورية، شمال شرق سوريا-قريبا من قبر أبي. انهم يقلقون نوم أبي في قبره البعيد. ويحزنني موت أي كان، عربياً كان أو كردياً...
جغرافياً، أنا من شمال شرق سوريا، بنت الجزيرة السورية، يوجد لنا قبور في مقبرة مار يعقوب، &لنا عرائش وحقول حنطة، يأكل منها السرياني والكردي والعربي والايزيدي. وكلنا نعرف كيف نرقص الدبكة الاشورية والكردية ونشارك الاخر وقت الفرح، ونتكاتف وقت العتمة والهم. كنا، هكذا، ويليق بنا أن نعيش بلا كره ولا ضغينة وعلى قدم المساواة في الكرامة والحقوق.
أنا بنت ديريك، ولَم أر قبر أبي بعد. كان جاري كرديا وصديقتي كردية ومعلمتي سريانية، وكان المكان يتسع للجميع لولا أن الدببة والدبابات دخلت إلى الكرم وحرقت المحصول وسرقت ما تبقى من أمان.
...
11 نوفمبر، ذكرى يوم الشهيد في كندا&
نوفمبر ذكرى عيد الشهداء الكنديين أيضا يعنيني فأقف إجلالا لمن فقد روحه في الحرب العالمية الأولى كي يجعل هذه البلاد بيتي الجديد- كندا واحة سلام لنا نحن المهاجرين من بلاد لم تقدم لنا سوى الفقر والرقابة والحصار والتفرقة و أشكال المذلة.&
الرحمة والسلام، أنشودتنا المريرة التي ستبقى معلقة في حناجرنا إلى آخر الحلم.&
الخريف يودعنا بلون أحمر خمري وجميل، ليحل علينا الثلج من جديد. إنهم في الساحة الكندية يقفون تحت الثلج ليضعوا وردة حمراء على نصب الجندي المجهول. كندا، بلد اللاجئين الذين يحتمون بها من جور أنظمة بلادهم وفجورها. &
أقول لنفسي: جيد أن لا ثلج في الشرق الآن، في العراق وسوريا ولبنان، ويستطيع الشباب أن يفترش الأرض ليل نهار، للوصول الى الحقوق وتحقيق الحلم.

كندا
[email protected]

جاكلين سلام ، &شاعرة وكاتبة ومترجمة سورية كندية. نشرت مقالاتها في الملحقات الثقافية العربية &مثل: السفير، المستقبل، الشرق الأوسط اللندنية، الجزيرة نت، الحياة.ولها خمس مجموعات شعرية منشورة وعدد لا يحصى من مقالات الرأي بالاضافة الى الترجمات الادبية.&
&