حالة المهجر

كتبت منذ فترة عن الشاعر العراقي سعدي يوسف (الشيوعي الأخير) وكيف تحول الى مناصر للثورة في العراق بعد أن كان ضد الثورة في سورية. ومع أن هذا التحول يحمل طابعا إيجابيا مبشرا لكنه من جانب آخر مريب.. واليوم أكتب ايضا عن حالة أخرى مماثلة، وهي من هيوستن، مكان إقامتي. نحن الذين كنا مع الثورة السورية كانوا هم من بدايتها ضدنا وضدها، فهي بنظرهم، من أول أيام الثورة حين كانت سلمية، مؤامرة وليست ثورة. لكن اليوم وعلى نحو مفاجئ صاروا مع الثورة، أية ثورة؟ إنها الثورة الأخرى، الثورة الحقيقية، ثورة العراق. والسؤال هو كيف تكون الثورة في سوريا مؤامرة ضد الوطن، والثورة في العراق هي من أجل الوطن؟ هذا التحول في الرؤية والموقف، بالنسبة للثورة، يجب دراسته للوقوف على طبيعة الانسان (المثقف) العربي. ليس الاختلاف في الموقف هو قصور منطق ولا قصور محاكمة، فهؤلاء اساتذة جامعيون واطباء ومهندسون ومثقفون قرأوا ربما نصف مكتبات العالم – ويعرفون أن الثورة هي ثورة المظلوم ضد الظالم، ثورة الشعب ضد الحاكم ولا يمكن أن يكون الحاكم مظلوما، الثورة في شوطها القريب \ البعيد هو طلب الحرية والعدل.&
حين نواجه هذه الطبيعة المزدوجة فالبتأكيد نحن أمام حالة محيرة، هل يقال إنها طبيعة انتهازية غير اخلاقية همها ليس مناصرة الحق بل المساومة، تساوم وترصد أين تميل الكفة كي تستبقها؟ هذه النفس المحيرة التي نحملها، إن كان كلامنا صحيحا، ستجعلنا نقف أمام معضلة كبرى لا حل لها في الوقت الحاضر- وهذا عين الواقع فنحن مما فيه من انحطاط وبؤس يدل من دون ريب على ذلك.
لا يمكن أن تنجح ثورة في بلد عربي وتفشل في بلد آخر، لأمر بسيط وهو أن المنطقة كلها كيان واحد مترابط لا يفصلها سوى الحدود الوهمية، فالوعي \ العادات والتقاليد، العقل العربي ككل هو واحد في ايجابياته وسلبياته. الدكتاتورية واحدة والشعوب هي نفسها التي تقاوم الظلم والفقر.&
في &وقت قريب استضاف احد المراكز العربية الثقافية في هيوستن- وهو نفس المركز الذي رفض فيما سبق اقامة ندوات عن الثورة السورية وتعليله كان، لأن طابعها سياسي- استضاف هذا المركز احد الكتاب العراقيين كي يقدم "تحليلا أكاديميا لهذا الحدث التاريخي فما كتب عنه حتى الآن أغلبه تقارير صحفية أو إخبارية" وعلى النقيض من هذا الكلام، استشهد الكاتب الاكاديمي بمنشورات الفيس بوك وبصوره، وبما عرضه التلفزيون من أخبار معروفة من دون إضافة أخرى لم يسمع بها الحضور. كان أيضا مقدم الحفل، الذي بدا ثوريا، يدير الحوار ويتصل عن طريق الانترنيت مع الشباب الثوار في العراق، يوقظ أحدهم من نومه ليسأله عن الشهداء وعن حال ثورتهم. وحين انتهت الندوة سأله أحد الحضور، طيب ماهي النتيجة العملية من هذه الندوة؟ أيقظتم الثوار من نومهم وفي ظنهم أن دعما لهم قادم من الجالية العربية في امريكا، فما كان منه الا ان تجاهل السؤال... أذكر أن هذا المقدم كان له رأي آخر من الثورة السورية، نظر اليها وعلى مدى سنواتها الثمانية من باب طائفي فهي مؤامرة للانقلاب على الممانعة وعلى القومية العربية. وإن كان يراجع إيمانه السابق بصدد الثورة السورية فإنه سيكتشف المساومة في أفكاره، ولم يكن موقفه هذا فرديا، هناك اصدقاء عديدون من سوريا والعراق وفي مناطق أخرى لهم مصالحهم وارتباطاتهم حملوا نفس الموقف حتى لتكاد تستغرب من أمرهم.&

من جانب آخر، كنت فيما سبق أكتب في إحدى الصحف (الورقية) العربية المناصرة للثورة السورية، ويومها كتبت نقدا عن الشعر الذي قيل في الثورة السورية من عام 2011 الى 2016 ونقدت في المقالة احد الشعراء السوريين وكان من داعمي الثورة السورية ومتابعيها، فما كان من الصحيفة بعد ان طبعت النسخة الورقية وانتبهت الى النقد الذي جاء في حق احد أصدقائها الشعراء، أن حذفت المقالة من موقعها الالكتروني. ما جعلني اتساءل عن أي شيء تناضلون أيها المناصرون للثورة وعلى من تثورون؟ إن كنتم لا تقبلون النقد لنصوصكم فلماذا تناضلون من أجل الحرية والديمقراطية؟ لو كنتم أنتم مكان الأسد لفعلتم أشد مما فعل!
هذه المواقف المختلطة المتداخلة إنما تعني الزور الذي نعيش فيه، وبهذه الأنفس فإنه لا قوة لنا على مواصلة السير، حتى إن نجحت ثورة في مكان ما من العالم العربي فإن أمامها ما هو أكبر من نجاحها ألا وهو الاستمرار، وهو النجاح الحقيقي للثورة. ليس النجاح أن تطيح بالديكتاتورية بل هو أن تتابع وترسي دعائم الديمقراطية والحرية وهذه الدعائم بالاصل تحتاج الى أنفس شريفة طاهرة وحقانية وبالتأكيد فإننا كظاهرة سكانية &في العالم العربي لا تكاد توجد فينا هذه الخصائص. &
لي كلمة أخيرة أقولها للثوار الشباب في العراق في لبنان في كل مكان، أن لا تثقوا بالمثقف العربي. أن لا تثقوا إلا بأنفسكهم وبمشاعركم. هناك حطام وهشيم، منهما يتكون انسان المنطقة والتي مرت عليها ويلات وحروب (باردة وساخنة) هذا الانسان غير مؤهل حاليا على رعاية نفسه، إنه مراوغ ومحتال، فكيف له ان يرعى التاريخ، كيف له أن يرعى المنطقة ويقيم الديمقراطية؟