فلسفةُ السُّلوك الاجتماعي ليست ظاهرةً مَصلحية مَحصورة في الأُطُر المادية ، والسلوكُ &الاجتماعي ليس&فِعلًا &روتينيًّا يوميًّا عابرًا، لأن أفعال الإنسان تنبع من قناعاته الداخلية والقيمِ الفكرية الرمزية المُسيطرة على مشاعره . وبعبارة أُخرى، إن أفعال الإنسان _ مهما بَدَت سطحية وساذجة وظاهرية وعَرَضِيَّة _&تنطلق من جوهر رمزي&مركزي في داخل الإنسان&، وهذا هو المنبع الفكري الذي يُسيطر على روافد السُّلوك الاجتماعي، ويتحكَّم فيها&، كَمًّا ونَوْعًا، رُوحًا ومادةً. وكما أن فَلَتَات اللسان البسيطة تَكشف _ في الغالب الأعَم _ عن مُحتويات القلب ، كذلك الأفعال الإنسانية البسيطة تكشف عن أنساق ثقافة المجتمع، وطبيعةِ النظام الاجتماعي المُسيطر على القيم الفردية والجماعية . والإنسانُ أوَّلًا &وأخيرًا هو ابن بيئته ، ونتاج عَصْره .

2

& & لا يُمكن إنكار تأثير العقل الجَمْعي في ثقافة الفرد ومبادئه وقناعاته ، ولا يُمكن تجاهُل الإحساس الإنساني بإفرازات الشُّعور العام في المجتمع . وهاتان المُسَلَّمَتَان تُجسِّدان الأساسَ الفلسفي لمنظومة الوَعْي والوَعْي المُضاد. ومهما كان الإنسانُ قويًّا ، لا يَستطيع الإفلات مِن سَطوة المكان ( بمعنى الذِّكريات المُتمركزة في الذهن ، وليس التضاريس الجُغرافية )&، كما أنه لا يَستطيع الخُروج مِن جِلْده ، والقفز في الفراغ ، تمامًا كالسَّمكة التي لا تَستطيع الخُروج مِن البحر ، والقفز على اليابسة. وهذه البُنية الإنسانية المحصورة في إطار الزمان وحَيِّز المكان،تُنشِئ وَعْيًا خاصًّا بها، يتماهى مع ذاتية الإنسان كبُنية اعتبارية مُستقلة نسبيًّا ، ويندمج مع مصالحه الشخصية ضمن التيار العام في المجتمع . وفي نفْس الوقت ، يَنشأ وَعْي مُضاد ناتج عَن العقبات الاجتماعية في طريق&الإبداع&الشخصي للإنسان .&وهذا الوَعْيَان الجُزئي ( الفردي ) والكُلِّي ( الجماعي ) سَيَصطدمان عندما تتناقض&مصلحةُ الفرد معَ مصلحة الجماعة، وتُصبح الحُرِّيةُ الفردية تهديدًا لوُجود المجتمع . وبالتأكيد ، لا تُوجد حُرِّيةمُطْلَقة في الأنساق الاجتماعية، ولا يُمكن ترك الحبل على الغارب . والحُرِّيةُ المُطْلَقة هي الفَوضى الشاملة. وهذا الأمر يَدفع باتجاه بناء حُرِّية الإنسان النِّسبية على قاعدة العمل الجماعي لتحرير المجتمع مِن الأمراض الروحية ، والخَوفِ مِن المُستقبل ، وتَطهيرِ الفكر الاجتماعي مِن الاتِّكالية ، والسَّلبية ، وجَلْد الذات ، وانتظار الخَلاص والحُلولِ السِّحرية ، والبحثِ العبثي عن مُجتمع مثالي . وإذا أدركَ الإنسانُ أن حُرِّيته الحقيقية تعني أن يَبدأ فَوْرًا بإصلاح نفْسه، ويَقتلع شَوْكَه بيده، ولا يضع أخطاءه على الآخرين، ولا ينتظر مجيء أحد ليُساعده، فإن المُجتمعُ _ عِندئذ _ سيُصبح مُتَقَدِّمًا ، بدون صِدام بين وَعْي الفرد ووَعْي الجماعة ، وبدون&نزاع بين الحُلم الجُزئي والمصلحة الكُلِّية . ولا يُمكن للإنسان أن يَحصل على حُجرة هادئة ومُريحة في سفينة تغرق ، وهذا يعني وُجوب تحويل الحُلم الإنساني إلى مشروع للنهضة الجماعية. ومِن غَير المَعقول حُصول صِدام بين الإنسان ومُجتمعه ، إذا تَكَرَّسَت النَّهضةُ كحُلم جماعي يُوازن بين الرُّوح والمادة ، وإذا صارت فلسفةُ السُّلوك الاجتماعي سفينةَ نجاةٍ تتَّسع للجميع ، لأنه عندئذ لن يخاف الإنسانُ مِن المجتمع ،&ولن يَشُكَّ المجتمعُ في الإنسان ، وهذا يعني الوصول إلى حالة السلام الرُّوحي، والسِّلْم الاجتماعي، والمُصالحة الداخلية، ولن يخاف البَحَّارَةُ مِن بعضهم البعض، ولن يُوجِّهوا جُهودهم لتدمير أنفسهم، وإغراق السفينة، لأنهم أمام خطر واحد يُهدِّد حياتهم جميعًا، وهو مَوج البحر . وإذا تَكَرَّسَ الخَطَرُ كتهديد وُجودي شامل وعام ، اتَّحدت الجُهودُ لمُواجهته ، والتَّصَدِّي له .

3

& & إن كَينونة السُّلوك الاجتماعي نتاج لتفاعُل الفكر الإنساني مع الجَوْهَر ( حقيقة الوُجود ) . والوُجودُ الإنساني لا يتم تحليله إلا مِن خلال خصائص الثقافة الاجتماعية ورُموزِ الظواهر العقلية . وإذا تَمَكَّنَ المجتمعُ مِن التفريق بين الخصائص والرموز في أنساقه، وصناعة توازُن منطقي بين الفاعلية الذهنية والدافعية الواقعية، ومعرفة الحدود الفاصلة بين العناصر الوجدانية والتراكيب العملية، استطاعَ النُّهوضَ ، والانطلاق إلى الأمام . وعمليةُ النهضة لا معنى لها إذا انفصلت عن قيمة الانطلاق ، لأن النهضة لَيست مقصودة لذاتها ، وأهميتها تتجلَّى في كَوْنها مرحلة أساسية لصناعة الوَعْي بأهمية الانطلاق . وإذا صار الوَعْيُ ثقافةً اجتماعيةً عامَّةً ، انطلقَ المجتمع إلى أحلامه ، وتَجَاوَزَ حاضرَه ، وتَقَدَّمَ إلى المُستقبل ، بدون خَوف ولا تردُّد . وكما أن الخَوف يَشُلُّ قُدرةَ الإنسان على التفكير،كذلك يَشُلُّ قُدرةَ المجتمع على الانطلاق واقتحام المُستقبل&.

4

& &&لا&يَستطيع الإنسانُ&أن يَلعب دَور البطولة على خشبة مَسرح الحياة ، إلا بعد خُروجه مِن الكواليس وإزاحة السِّتار الفاصل بينه وبين الناس، ومُواجهتهم . وهذه المُوَاجَهَة ضرورية ، لأنها تُمثِّل لحظةَ الحقيقة، وتُجسِّد عمليةَ صناعة الحَدَث . وكُل حَدَثٍ منطقي هو نظام مِن العلاقات الفكرية ، التي تُشكِّل إيقاعًا اجتماعيًّا واعيًا،&يَربط بين القواعد التفسيرية للمعنى الإنساني وطبيعةِ الإنسان بكل تناقضاتها. وقُوَّةُ&النظام الاجتماعي لا تتجلَّى في مَنْع تَشَظِّي الأنساق الإنسانية ، وإنَّما في السَّيطرة على الشظايا، لأن التَّشَظِّي لا بُد مِنه.وأيضًا، إن المجتمع المُنظَّم ليس الذي يَخلو من عناصر الفوضى، وإنَّما الذي يُسيطر على عناصر الفوضى،ويجد لها مكانًا ضِمن آلِيَّة البناء الاجتماعي رُوحيًّا وماديًّا.