بينما يصطف اللبنانيون طوابير أمام المصرف الذي يعطيهم دولاراتهم بالقطارة، وبينما تتدحرج الدولة اللبنانية في انهيار اقتصادي كامل ربما يمنعها في شهر أو شهرين من أن تنقد موظفي القطاع العام رواتبهم، تصل الوقاحة بدويلة حزب الله إلى حد إعلانها أنها زادت رواتب موظفي الحزب ومقاتليه وإعانات عوائل قتلاه وجرحاه، متبجحًا بأنهم قبضوا رواتبهم بالدولار، ونقدًا.

ليس الأمر أن أمين عام حزب الله حسن نصرالله لا يستطيع أن ينام وأبناء شيعته جوعى، وليس الأمر أنه لا يقدر على رؤية أي من أتباعه محتاجًا، إنما ما يفعله زرعٌ عاجل يريد حصاده آجلًا.&

أفشت الثورة اللبنانية المستمرة منذ 66 يومًا تقريبًا الكثير من الأسرار وهتكت الكثير من الأستار اللبنانية. فبفضل مثابرة الثوار وإصرارهم على نشر الوعي السوسيو-بوليتيكي في خيام منتشرة في طول لبنان وعرضه، أدرك عددٌ هائل من اللبنانيين، من جميع فئات المجتمع اللبناني العمرية، أن لا طائل من الاستمرار في سياسة التبعية المذهبية ولا الطائفية ولا المناطقية، والحل الأمثل هو قيام دولة مدنية عادلة، من دون قيود طائفية؛ وبالتالي، المال الإيراني النقدي الذي يوزعه حزب الله اليوم إنما هو دفعة مسبقة ومستمرة، كي يضمن تصويت أغلبية شيعته التي ارتغع صوتها في أول أيام الثورة، واستمرت خلف الأبواب المغلقة بعدما أصدر نصرالله فتواه بأن وراء أكمة هذه الثورة ما وراءها من سفارات.

ما قال نصرالله هذا إلا حين وصلته رسائل الشعب الذي ضاق به العيش في ظل رجال المقاومة المُمسين إلى المنازل الفخمة في سيارات أميركية رباعية الدفع مظللة، ونساء رجال المقاومة المُصبحات إلى الأسواق يشترين أبهى الحلل وأغلاها، وإخوة رجال المقاومة الذين صيّروا بيئة المقاومة سوقًا مثلى لترويج مخدراتهم... "وما شاكل".

إن من مطالب الشعب اللبناني منذ 17 أكتوبر انتخابات نيابية مبكرة. وما طلب الثوار هذا الطلب إلا لأنهم يعرفون حقّ المعرفة أن أي انتخابات نيابية تجري، وفق أي قانون انتخابي كان، فإن من يتحكمون بمصير الشعب اللبناني اليوم لن يعودوا، لأن صندوقة الاقتراع ستلفظهم.

يعرف نصرالله هذا الأمر، كما يعرفه غيره، مثل رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، الذي واقف على تكليف حسان دياب لتأليف حكومة حزب الله في لبنان، ثم دفع بمؤيديه أربعة أيام متتالية ليقفلوا الطرقات، خصوصًا في بيروت، شدًا للعصب السني رفضًا لما تعبّر عنه دار الإفتاء اللبنانية، ومفتيها تابع للحريري، بكلمة "تهميش" وبعبارة "الاعتداء على القرار السني"، من منطلق أن رئيس الحكومة المكلف أتى بأصوات 6 نواب سنة (هم سنة حزب الله) من أصل 26 نائبًا، امتنع 25 منهم عن التصويت، فيما صوت واحد فقط، هو الوزير السابق نهاد المشنوق، للمرشح نواف سلام، القاضي في لاهاي المشهود له بالنزاهة والمعرفة، والذي رفضه حزب الله لغاية في نفسي حسن نصرالله وجبران باسيل؛ وبالتالي، لا يمثل دياب السنة اللبنانيين خير تمثيل.

ترك الحريري حبل أنصاره على غاربه، فأقفلوا الطرقات وهاجموا الجيش بالمفرقعات والإطارات المشتعلة، في حوادث بدت "نسخًا ولصقًا" لما فعله شباب "الخندق الغميق" من أنصار نبيه بري، رئيس البرلمان اللبناني وحركة أمل الشيعية، بالجيش قبل أسبوع في أكثر من موقعة في وسط بيروت.

لا يملك الحريري مالًا إيرانيًا "نظيفًا" يقدمه لسنّته، كما يقدم نصرالله لشيعته، فكان الخوف على مصير الطائفة السنّيّة مجالًا ملائمًا للشدّ في الشارع، تحت عنوان "حسان دياب لا يمثلنا"، ليكون ذلك استثمارًا مستقبليًا في أي انتخابات جديدة، كي يعود الحريري قويًا على ظهور السنّة، بصفته الممثل الشرعي والوحيد للصف السنّي، مقابل نصرالله الممثل الشرعي شبه الوحيد للصف الشيعي. لكن، لا بد من الاعتراف هنا بأن حظوظ المال الإيراني أعلى من حظوظ التخويف السني.

إلى جانب هؤلاء، كان مسليًا الاستماع إلى وليد جنبلاط، الزعيم الأقوى عند الدروز في لبنان، وهو ينصح دروزه بالزراعة لأن البلاد مقبلة على مجاعة، واعدًا بتوزيع الحصص الإعانية في بداية العام الجديد.

يريد جنبلاط أن يظهر هو أيضًا بمظهر الخائف على مصير طائفته التي يتربص بها الجوع. لكن، رب سائل يسأل: ألم يفكر جنبلاط يومًا، منذ ألبسه شيخ عقل الدروز الراحل محمد أبو شقرا عباءة الزعامة في 16 مارس 1977 حتى اليوم، بأن يؤسس للدروز مصنعًا واحدًا، أو مدرسة، أو جامعةً – كما فعل غيره من زعماء الطوائف الأخرى - أو أي مؤسسة تتيح للدروز فرص عمل تقيهم الجوع الذي يحذر منه هو اليوم؟

لم يفعل هذا، إنما ساق الدروز سوق القطيع، من حرب إلى أخرى، ومن موقف إلى آخر، حتى وقف اليوم مذهولًا من نسبة عالية كانت تؤيده وانتقلت إلى تأييد ثورة تضمه في قائمة شعار "كلن يعني كلن". وهذا ما اثار الغريزة الحزبية في بعض أنصاره في عالية، فحذوا حذو أنصار قرينه بري في النبطية، وهاجموا خيمة الثورة.

في المقابل المسيحي، وزير الخارجية الأسبق جبران باسيل، أو الوزير الأكثر تعرضًا للنقمة الشعبية منذ 17 أكتوبر، ما زال متربعًا على عرش من السلطات سربها له عمّه رئيس الجمهورية ميشال عون... حتى قال عون أخيرًا إن من حق باسيل أن يشارك في تأليف الحكومة، فهو في النهاية صاحب أكبر تكتل نيابي في البرلمان.

أما سمير جعجع فمرتاح قليلًا لقاعدته الشعبية المسيحية التي يبدو أنها شاركت، بشكل غير رسمي وغير حزبي، في فاعليات الثورة. كما كان المبادر الأول إلى أقالة وزرائه من الحكومة، قبل أن يفكر الحريري في إقالة نفسه من السلطة. وهذا ما يجعله مدركًا أن الانتخابات إن عادت، فقد لا تزيده نوابًا لكنها لن تسلبه نوابًا، وبالتالي يظن أن خياراته اليوم مفتوحة، على الرغم من أن عدم تسمية نواف سلام رئيسًا للحكومة لا يصب شعبيًا في صالح جعجع وربعه.