الفكرُ الاجتماعي لا يَنفصل عن منظومة المشاعر الفردية ، ولا ينفصل عن الإطار العملي للرموز المعرفية ، ومراحلِ تاريخ العقل الجمعي . وهذا الترابط المركزي المصيري يُحوِّل الأنساقَ الاجتماعية إلى وعاء حاضن لأحلام الناس وآمالهم ، مِمَّا يدل على أن الأنساق الاجتماعية تُمثِّل رُموزًا فكرية ذات مرجعيات نفسية عميقة،وضاربة جُذورها في كيان الفرد وبُنية المجتمع. ولا يُمكن اعتبار الأنساق الاجتماعية مُجرَّد تحوُّلات في بُنية التاريخ ، أو تغيُّرات في طبيعة الجُغرافيا ، لأن المجتمع لا يتحرَّك في الإطار المادي فَحَسْب ، بَل أيضًا يتحرَّك في الفضاء المعنوي غَير المَحسوس ، والذي يقوم على إفرازات الظواهر النفسية الداخلية المتجذرة في وَعْي الفرد وإحساسه بذاته ، وشُعوره بالعَالَم المُحيط به. وكُل فرد أثناء رحلته في الحياة يبتكر منهجه الخاص في التعامل مع الظواهر النفسية والحقائق الاجتماعية ، وهذا يَدفع باتِّجاه توليد تصوُّرات خُصوصية عن الأشياء والقِيَم والرموز والعلاقات التي تنتشر في المجتمع الإنساني ، وتتحكَّم باتِّجاه حركته ، وماهية أفكاره، وهُوِيَّة مساره، وشخصيته الاعتبارية . وتعدُّدُ التَّصَوُّرات واختلاف الأحكام ، لا يدل على تشظِّي المجتمع الإنساني وانفصام شخصيته وانكسار أحلامه ، وإنما يدل على تعدُّد زوايا الرؤية ، واختلاف وجهات النظر المُرتكز إلى اختلاف قُدرات الأفراد . لذلك تتعدَّد الأحكامُ حول الحقيقة الواحدة ، لأن كُل فرد يَراها بعَيْنه ، ويَحكم عليها وَفْق تصوُّره الشخصي . وكما أن المِرْآة واحدة ، والصُّوَر فيها مُختلفة تَبَعًا لاختلاف الأفراد الواقفين أمامها ، كذلك المجتمع الإنساني واحد ، ووجهات النظر مُتباينة بسبب تبايُن القُدرات العقلية للأفراد . وإذا لم تكن الصورةُ في المِرْآة جميلةً ، فإن المُشكلة في شخصية الفرد، ولَيست في طبيعة المِرآة .

2

& & العلاقةُ الوثيقةُ بين أبعاد الوجود الإنساني ( الشُّعور ، الرَّمْز ، التاريخ ، الجُغرافيا ) هي الضمانة الأكيدة للحفاظ على إحساس الأفراد بالحقائق المعرفية والبُنى الاجتماعية ، ومَنع التعارض بين المُعطيات النفسية والعلاقات الاجتماعية . وكُلَّما اتَّجَهَ الشُّعورُ الإنساني إلى الرَّمْز الاجتماعي ، اتَّضَحَ منهج تفسير مصادر المعرفة في المجتمع الإنساني ، لأن الشُّعور والرَّمْز عابران للتَّجنيس ، ولا يَخضعان لعملية الأدلجة ، لذلك كانت القيم الأخلاقية المُطْلقَة _ التي تقوم على ثنائية الشُّعور والرَّمْز _ واحدةً في كُل المجتمعات ، رغم اختلاف العقائد والثقافات . فمثلًا ، إن الصِّدق والإخلاص والأمانة والاحترام ... إلخ ، قيم ثابتة في كل المجتمعات ، وتتمتَّع بسُلطة أخلاقية اعتبارية نابعة من العقل الجمعي ، ومُعْتَرَف بها في كُل الأوساط دُون الحاجة إلى عمليات أدلجة ، أو ضغط نفْسي ، أو إرهاب فكري . وهذه القيمُ مفروضة في أنساق المجتمعات بحُكم قُوَّتها الذاتية وماهيتها المُطْلَقة ، وليس بقرارات سياسية أو أحكام سُلطوية عُليا . وأكبرُ خطر يُهدِّد المنظومةَ الفكرية المُتكوِّنة مِن الشُّعور والرمز والقيم الأخلاق المُطْلَقة ، هو المصالح الشخصية الضَّيقة والنَّزوات الذاتية والرغبات الأنانية، لأنها تُحوِّل القيمَ المُطْلَقة إلى مُكوِّنات نِسبية ، وتُحوِّل العقائدَ الدينية إلى أيديولوجيات&سياسية نفعية لحشد الناس واستغلالهم والسيطرة عليهم . وخطورةُ هذه العملية تتجلَّى في جَعْلِ اختلاف الآراء الفكرية صراعًا اجتماعيًّا دمويًّا ، وتحويلِ تعدُّد وجهات النظر إلى صِدَام دِيني مُرتكز إلى التناحر المذهبي والعصبية القَبَلِيَّة والعُنصرية العشائرية . وبعضُ الزُّعماء يرسم مُستقبله السياسي اعتمادًا على طائفته وقاعدته الانتخابية، دُون اعتبار لمركزية الوطن والشعب بكافة مُكوِّناته وشرائحه. وهذا يستلزم بالضرورة ترسيخ سياسة التَّحشيد والأدلجة ، وأخذ الطوائف رهائن لتوجُّهات بعض السياسيين ومصالحهم الشخصية . لذلك ، يُصبح الوطنُ مُجرَّد فندق للإقامة المُؤقَّتة بدون انتماء حقيقي . مِمَّا يُسبِّب اضطرابات اجتماعية ، وتفكُّكًا في النسيج الوطني، وانهيارًا شاملًا في مؤسسات الدَّولة. وفي ظل هذا السُّقوط المُريع،يَبرز تُجَّار الحروب، وزُعماء الطوائف ، وسماسرة الكوارث . وبعضُ السياسيين مُستعد للتَّضحية بطائفته كاملةً مُقابل الحفاظ على منصبه وامتيازاته ومُكتسباته الذاتية ومصالحه الشخصية ومنافعه المادية . وهكذا ، يختفي معنى الوطن، ويغيب من الأذهان، وتَحُل مكانه الحِزبية والطائفية والمذهبية .والسياسةُ _ أوَّلًا وأخيرًا _ هي وسيلة&منطقيةوأداة فكرية&لتغيير الواقع إلى الأفضل ، وتسهيل حياة الناس ، وتحقيق أحلامهم . وكُل مجتمع يَنظر إلى السياسة مِن هذه الزاوية ، سيتقدَّم إلى الأمام ،&ويَصهر المراحل في الطريق نحو الازدهار والرخاء الشامل . ولَيست السياسةُ أخذَ الطوائف رهائن للحصول على الغنائم&،&وتحقيق منافع شخصية ،&والمُتاجرة بأحلام الناس وآلامهم ومُعاناتهم ، كما يَفعل بعض السياسيين&، الذين يَدفعون بلادَهم إلى الهاوية ، وأبناءَ&شعبهم إلى اليأس .&&&

3

& & كُل أيديولوجية سياسية تُوظِّف الدِّينَ لتمزيق المجتمع ، وتقطيع أوصاله ، والتمييز ضِد أبنائه، مصيرها الفشل الحتمي والسُّقوط المُدوِّي . ومهما كان تُجَّارُ السياسة ماهرين في التَّوظيف السياسي للدِّين لتحقيق أهداف شخصية، والتلاعب بمشاعر الناس المذهبية ، ودَغْدغة عواطفهم الإيمانية ، إلا أنهم سيقعون في شر أعمالهم ، وينقلب السِّحْر على الساحر ، ومَن يَلعب بالنار تَحرِق أصابعَه ، كما أن دفن النار تحت الرماد ليس حَلًّا لعلاج الأزمات ، وكثرة الضغط تُولِّد الانفجارَ . وحتى لو بدا البُركانُ خامدًا ، فلا أحد يَعرِف موعد ثَورانه . وإذا ثَارَ سيحرق الأخضر واليابس. لذلك ، ينبغي إطفاء حِقد القُلوب بالعدل والمُساواة ، وإخماد الفِتَن النائمة نهائيًّا بإطلاق قطار التنمية الحقيقية الذي يتَّسع لجميع الناس ، وإشراكهم في مسيرة التَّقَدُّم والازدهار ، كَي يَنشغلوا بالتَّعمير لا التَّدمير ، والبناءِ لا الهدم . ونَفْسُكَ إن لم تَشْغلها بالحق شَغَلَتْكَ بالباطل .&

&