لن تتعايش إدارة ترامب مع التقاط "حزب الله" الخيوط الخفيّة لتحريك الدمية ليرتاح في دور الاستئثار بصنع القرار في لبنان عبر حكومةٍ جديدة ضعيفة من صُنعه اللافت انه يتنصّل مُسبقاً من فشلها ويضع مسافةً معها لغاياته المدروسة. الأوروبيون بمعظمهم، وكعادتهم، يبعثون الرسائل المضللِّة عملياً بحرصها على اللغة الديبلوماسية التقليدية في الوقت الذي يحتاج لبنان الى لغة واضحة وصارمة تضع النقاط على الحروف بوضوح وبِلا مواربة.

وهكذا تفعل أيضاً الأمم المتحدة عبر الأمين العام أنطونيو غوتيريش الذي يخاف من ظلّه منذ توليه المنصب. الديبلوماسية الروسية منشغلة بأولوياتها السورية والليبية تراقب بقلق المغامرات التوسعية التركية وتترقب برعب توعّدات إيرانية علنية بالانسحاب من معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية NPT. لذلك لا تتدخل موسكو بصورة مباشرة في ساحة لبنان الضيّقة سوى من باب اطمئنانها الى "استقرار" وعدتها به طهران من خلال استمرار سيطرة "حزب الله" على أية حكومة لبنانية.

وهكذا كان مع ولادة حكومة يرأسها حسّان دياب، قام بحياكة نسيجها جميل السيّد، أحد أقرب الناس وأكثرهم ولاءً للرئيس السوري بشار الأسد، دون أن يبتر ولاءاته العميقة لـ "حزب الله" ولإيران. وهكذا بات في لبنان اليوم حكومة محور "الممانعة" التي تمتنع عن تبني المواجهة في هذه المرحلة لأن القرار الآتي من طهران يدعو الى التهدئة المؤقّتة ريثما تُدرس الخيارات الاستراتيجية في وجه الضغوط الأميركية الخانقة.

السياسة الأميركية ثابتة على نهج العقوبات كسلاح رئيسي وأساسي في وجه أقطاب محور "الممانعة" – الذي يضم إيران وسوريا و"حزب الله" في لبنان و"الحشد الشعبي" في العراق –ويسمّي نفسه أيضاً "محور المقاومة" للولايات المتحدة ولإسرائيل. لبنان الرسمي ما زال خارج الاستهداف بالعقوبات الأميركية. إنما تجرؤ "حزب الله" وحلفائه على فرض حكومة "اللون الواحد" تحت لوائه أمرٌ له حساباته في واشنطن – والجميع سيدفع الثمن إذا ظن ان إدارة ترامب ستخضع لحكومة "حزب الله" في لبنان.

الديبلوماسية الأميركية تتريّث ليس بهدف التعايش مع حكومة حسّان دياب الذي يروق له أن ينفي أن هذه حكومة "حزب الله" بتطعيم سوري ويعجبه القول انها حكومة الحراك الشعبي ضد السلطة. تتريث ليس لامتحان قدرات هذه الحكومة على إدخال الإصلاحات الجدّية والجذرية التي باتت شرطاً أساسياً لتقديم المساعدات المالية الحاسمة في منع لبنان من الانهيار – فهذه حكومة دُمى الأحزاب والمحاصصات معظم أفرادها، وليس جميعهم، يفتقد المهارات التي تتطلبها هذه الحقبة لإنقاذ البلاد. الديبلوماسية الأميركية تتريّث، أولاً، لتتأكد من ثبات مؤسسة الجيش وعدم انزلاقها الى مواجهة دموية مع المتظاهرين السلميّين، وثانياً، لتضمن ثبات الدول المانحة، الأوروبية والعربية – وفي صدارتها قطر – على عدم الاستعجال الى دفع الأموال قبل الإصلاحات أو كمحرك للإصلاح لأن في ذلك إنقاذ للحكومة من محاسبة الناس لهم.

الديبلوماسية الأوروبية، بالذات البريطانية، تتحدّث بلغة مؤذية للناس ومطالبهم ولثورتهم. تتحدث بلغة ان مجرد تشكيل حكومة بعد ثلاثة أشهر هو إنجاز وتلبية لمطلب أساسي، وأن لا حاجة الى الحكم مُسبقاً على الحكومة قبل الإطلاع على أدائها وبالتالي لمَ لا إعطائها مهلة امتحان قصيرة انما مع حجب المال عنها الى حين التيقن من الإصلاحات.

هذا الموقف لافت ليس فقط لأنه يأتي متزامناً مع قرار بعدم تمييز لندن بين الجناح السياسي والجناح العسكري لـ"حزب الله" عند تصنيفها له في خانة "الإرهاب" – وهذا جديد. لافت لأنه ينطوي ضمناً على التعايش مع حكومة "حزب الله" والتأقلم مع فوز "حزب الله" بحكومة ممانعة في وجه مطالب الثورة التي لم تكن أبداً ضد الفساد حصراً، وإنما كانت أيضاً ضد حكم الأحزاب والنظام الفاسد المرافق لفساد الطبقة السياسية الحاكمة برُمتها.

مثل هذا الموقف إنما يجرّ لبنان الى الانهيار، أولاً، لأن إعطاء الحكومة فرصة الامتحان لشهر أو شهرين إنما يؤجّل الانفجار ويضاعفه فيما المطلوب هو الإسراع الى الإصلاحات التي تحول دون الانهيار والانفجار. وثانياً، هذا موقف يؤذي ثورة الناس التي طالبت بحكومة من اختصاصيين مستقلين – وليس من دُمى لأسياد ماهرين بخيوط لعبة الدُمى – وهي تجد نفسها الآن أمام مواقف تنزع فتيل الثورة وتخمدها.

فليت الديبلوماسية البريطانية أو غيرها من الديبلوماسية الأوروبية تدقق أكثر وتعيد النظر.

الديبلوماسية الفرنسية كانت بحاجة الى مترجم لشرح مواقفها لأنها انطلقت من ربط المساعدات بالإصلاحات مع الترحيب بتأليف الحكومة لكنها سرعان ما ربطت الدعم بمواقف "حزب الله" الإقليمية وفي مقدمتها "النأي بالنفس"، وأوضحت أن دعمها مشروط بهذا الأمر كما بالإصلاحات.

الأكثر إثارة هو مواقف "حزب الله" كما يرويها المُقربون منه بالذات في صحيفة "الأخبار"، فيقول ابراهيم الأمين ان "حزب الله" سيكون "أكثر نأياً بنفسه عن كل شيء" لكنه "لن يسمح لكل من في الحكومة أن يُهدد مصلحة المقاومة ولو على حساب كل شيء". يقول ان "حزب الله" يتنقل بين الملفات الاستراتيجية "لإعداد ورقة تحت عنوان: المسألة الداخلية اللبنانية" تنطلق من أولوية قوى محور المقاومة وهي ليست أولويات لبنانية. يقول ان قوى المقاومة "لا تريد أن يجرها أحد الى معركة لا تخدم معركتها الأساسية. وبمعنى أدق، فإن قوى المقاومة لا يمكن أن تكون مع القهر والفساد، لكنها لا تتصرف على أن مواجهة هذه الأمور باتت أولوية تفرض نفسها على أي بند آخر. والنتيجة تكون: لا نمانع قيام دولة طبيعية عادلة، لكننا لن نصرف كل جهدنا وطاقتنا هنا، لأننا نعتقد بأن هزيمة المشروع الأميركي – السعودي – الإسرائيلي تمثل الأولوية، وان كل تراجع لحضور أميركا وهيمنتها سينعكس تراجعاً في الأزمات الداخلية للبنان وبقية دول المنطقة".

هذا الوضوح أتى في أعقاب "غموض" قرأه البعض في المواقف الأميركية على لسان وزير الخارجية مايك بومبيو لمجرد أنه انطلق بالإجابة على سؤال من "بلومبرغ" بقوله "علينا أن ننظر في ذلك. حتى الآن، لست أدري ما هي الإجابة" على السؤال، هل ستعمل الولايات المتحدة مع هذه الحكومة الجديدة؟ حقيقة الأمر ان موقف إدارة ترامب بالغ الوضوح عبر اشتراط بومبيو للتدخل والمساعدة وانقاذ لبنان من "أزمة مالية رهيبة في غضون أسابيع" حسب قوله، هو تلبية "احتجاجات تطالب بالسيادة والحرية". قال ان "الاحتجاجات في لبنان اليوم تقول لحزب الله: كفى. نحن نريد حكومة غير فاسدة تعكس إرادة شعب لبنان"، وأضاف أن الولايات المتحدة جاهزة لحكومة تستجيب لهذه الدعوات.

المثير هو ان المقربين من فكر "حزب الله" يتحدثون بلغة توحي بانتقاد حسان دياب وحكومته بالتزامن مع تخفيف التوقعات منها على نسق القول انه ضربٌ من المستحيل أن تتمكن هذه الحكومة من تحقيق إنجازات نوعية سريعة، وبالتالي لن تتمكن من منع الانهيار الآتي ولا من تنفيذ الإصلاحات المطلوبة. الانتقادات انطلقت من استبعاد دياب اقالة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في هذه المرحلة، الى قوله ان أول جولة خارجية له ستكون الى دول الخليج، الى عدم ادلائه فوراً بموقف يعد باستمرار "ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة" في البيان الوزاري، الى التساؤل لماذا أتت هذه الحكومة ان كانت غير قادرة على حل أزمة الكهرباء وسعر الدولار.

السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل ان تنصّل "حزب الله" من حكومة دياب هو لمجرد التمويه، او هو تنصّل من كارثة يعرف "حزب الله" أنها آتية على لبنان تماماً بسبب إصراره وإصرار حلفائه على مثل هذه الحكومة وضرب مطالب الناس بعرض الحائط؟

المهم لـ"حزب الله" ومحور المقاومة ليس ما يحدث للبنان وفي لبنان وإنما كيف يمكن استخدام الساحة اللبنانية في المعركة الأوسع لإيران مع الولايات المتحدة.

طهران الآن ما زالت تدرس خياراتها وهي تتخبط بين معارك النظام مع الشعب وبين معارك في صفوف أقطاب النظام. طهران حالياً في صدد مراجعة جدوى شحذ حدّة أدواتها النووية والصاروخية وتلك المتمثلة في أذرعتها في محور الممانعة. انها في مأزق في العراق كطرف في معارك شبه حرب أهلية. وهي في حال ترقّب وقلق في لبنان بالرغم من سطحية انتصاراتها السياسية المتمثلة في فوز "حزب الله" بتشكيل حكومة من لون واحد يتوقع هو لها الفشل ويتعهد لها بأن تأتي أولوية محور المقاومة قبل الحكومة والشعب وكل ما كان في لبنان. طهران في مأزق وقد سقطت في مستنقع طموحاتها الإقليمية والنووية.

إدارة ترامب ماضية بالمزيد من العقوبات ضد الكيانات الإيرانية نفسها وضد الأذرعة الإيرانية أينما كان. انها تصعّد عملية تطويق "حزب الله" ومصادر تمويله الممتدة من "المثلث" في جنوب أميركا الى أفريقيا، وتنوي فرض عقوبات اضافية مباشرة مع الاستمرار بحشد المواقف الأوروبية معها. وإذا اضطرها الأمر، حتى ولو كان ذلك سيؤذي الناس، ان واشنطن لن تتردد بفرض عقوبات على لبنان إذا استمر حكّامه بالافتراض ان ادارة ترامب ستتراجع أمام "حزب الله" وتنحني أمام "انجازاته الحكومية".

يبقى ان على الذين يتسرّعون الى الاستنتاج بأن الثورة في لبنان انطفأت وستعود المياه الى مجاريها ألاّ يسترخوا في افتراضاتهم الخاطئة والمؤذية حقاً. لا ضرورة لإعطاء هذه الحكومة فرصة شهر أو شهرين لإثبات فشلها. الأفضل أن تتحرك الدول التي تزعم الاهتمام بلبنان بمطالب محددة جديّة من هذه الحكومة، أبرزها: وضع آليات التحرك السريع نحو انتخابات نيابية مبكرة، وبدء الحديث التقني مع صندوق النقد الدولي IMF استعداداً لتدخلٍ حتمي في مرحلة ما بهدف احتواء أضرار الانهيار.