إذا كان ذلك التوسع الروسي أصبح أمراً اعتيادياً في عموم مناطق غربي الفرات، نظراً لفهم روسيا المناخ السياسي في هذه المنطقة بشكل جيد منذ تدخلها في سوريا من القدرة على احتواء وإدراك المصالح المتضاربة للقوى المحلية والإقليمية هناك، واستطاعت بموجب ذلك أن تنفرد لوحدها كضامن دولي، لكنه ليس كذلك في شرقي الفرات بعد عودة أمريكا من جديد إلى المنطقة بعد قرارها بالانسحاب من سوريا في السادس من أكتوبر في العام الفائت، حيث بدأت بتسيير دورياتها بشكل مكثف، بالرغم من التوسع الجزئي الروسي في بعض المناطق في عين العرب (كوباني) والقامشلي وعين عيسى بعد الاتفاق الذي حصل بين قوات سوريا الديمقراطية وروسيا لوقف الاحتلال التركي لشمال سوريا، وانسحاب التحالف الدولي بقيادة أمريكا من بعض المناطق الحدودية في الشمال السوري والبقاء في المناطق الغنية بالطاقة.

ويعود اختلاف الوضع في هذه المنطقة عن غربي الفرات إلى وجود قواعد امريكية وقواتهاالتي تقوم بتسيير بدوريات في المنطقة وما حدث خلال الأسبوع المنصرم من توترات بين الدوريات الأميركية والروسية والتي وصلت إلى حد الاشتباكات بالأيدي وإشهار السلاح بينهما في عدة مناطق، على الطريق الواصل بين الحسكة والقامشلي بعد ان منعت الدورية الأميركية الرتل الروسي من العبور، وعلى الطريق الدولي M4 عند بلدة تل تمر اعترضت القوات الأميركية الدورية الروسية هناك وتعتبر هذه البلدة عقدة وصل بين حلب والحسكة،وأيضا على طريق المالكية في ريف الحسكة والتي تقع في أقصى شمال شرق سوريا حيث توجد فيها فيش خابور (معبر سيمالكا) الحدودي مع العراق ويعتبر هذا المعبر عصب لوجستي هام لقوات التحالف الدولي من عبور شحنات من الأسلحة والمعدات الأخرى، في محاولة من روسيا للوصول إليه وهذا يعتبر تجاوزاً للخطوط الحمر بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، بعد أن أحكمت روسيا سيطرتها على جزء كبير من الطرق الدولية التجارية M5،M4 في سوريا.

يبدو أن الاعتراضات الأميركية للدوريات الروسية بمثابة قرار للولايات المتحدة الأميركية بمنع روسيا من التوسع للسيطرة على المناطق الاستراتيجية والوصول إلى الحدود العراقية والسيطرة على المعابر في تلك المنطقة، ومن جانب آخر يعتبر صراعاً على كسب المناطق وبسط النفوذ بعد مشاحنات أصبحت شبه يومية تحدث في المناطق المذكورة، ما يمكن وصفه بالتسابق بين الطرفين بعد أن جلبت القوات الروسية لمنظومة صواريخ متطورة وحديثة إلى مطار القامشلي، ما يوضح بما فيه كفاية على أن اصطدام القوات الروسية بالقوات الأميركية يدل على حقيقة الصراع بينهما. وبالتالي تتجه المنطقة لتصبح بقعة توتر بين قوتين رئيسيتين في سوريا إذا استمر هذا الاحتكاك، ويترافق ذلك مع الهجوم الدبلوماسي والسياسي لروسيا على التواجد الأميركي في سوريا واتهامها ب"الاستيلاء على أبار النفط واستخدامها بطرق غير قانونية والسعي إلى تقسيم سوريا وإقامة كيان انفصالي وعدم جدية الولايات المتحدة في محاربة داعش"، وفي المقابل خلطت العودة الأميركية مجدداً إلى المنطقة الأوراق الروسية، فقامت القوات الأميركية بإعادة الانتشار والعمل على توسيع قواعدها في شمال وشرق سوريا ومن أبرز تلك القواعد هي قاعدة تل بيدر القريبة من الطريق الدولي M4 في الحسكة.

وعليه يمكن القول بأن التحركات الروسية التي تلاقي اعتراضاً من القوات الأميركية تهدفبناءً على قراءتها للأحداث إلى تقويض وإضعاف الولايات المتحدة الأميركية في شمال وشرق سوريا، في محاولة منها أي روسيا إلى الاستفادة من المستجدات الحاصلة مؤخراً، مرحلة ما بعد قرار ترامب بالانسحاب الجزئي من سوريا ومن العملية الاحتلالية التركية الأخيرة على المنطقة والمعروفة باسم (نبع السلام)، واستثمار هذه التطورات في سياق تدخلها في شمال وشرق سوريا والتوسع بناءً على ذلك. قد يتيح لها هذا الأمر بسط نفوذها على كامل الجغرافيا في شمال وشرق سوريا على حساب الولايات المتحدة الأميركية، ويستند الإدراك الروسي على أن الأحداث الأخيرة في هذه المنطقة غيرت من قواعد اللعبة، ولديها أوراق نتيجة تدخلها في هذه المنطقة تستطيع أن تمارس الضغط السياسي والدبلوماسي على أمريكا لإجبارها على الانسحاب، في ظل التذبذب الأميركي بقيادة ترامب حيال مستقبل شمال وشرق سوريا، وتصاعد المطالب في العراق بالانسحاب الأميركي الذي يشكل ضغطاً عليه.

تعد هذه المعطيات السياسية انعكاساً للتعقيدات الظاهرة في طبيعة العلاقة الروسية ـ الأميركية حيال شمال وشرق سوريا والتي تبرز على هيئة الأحداث المثارة بينهما بعد التطورات الأخيرة. لا يمكن الاستهانة بما يحصل واعتباره أحداث عابرة، حيث يسعى كل طرف إلى فرض أجنداته على أرض الواقع، باستقطاب قوات سوريا الديمقراطية وتركيا من خلال محاولة كل من روسيا وأمريكا بكسب الطرفين وتطويعهما في خدمة استراتيجيتهماالهادفة إلى إخراج كل طرف للآخر في شرقي الفرات، حيث أعلن الجنرال مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية بأنه على استعداد للتفاوض مع تركيا حول الخلافات العالقة بينهما ومن جانبه صرح أردوغان عقب عودته من مؤتمر برلين الدولي حول ليبيا أن ترامب وبوتين طلبا منه التفاوض مع الجنرال مظلوم، وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على محاولة كل من روسيا والولايات المتحدة في جذب كل من قسد وتركيا القوتان اللتان تعيشان حالة العداء مع بعضهما البعض.

من الواضح أن هذا الصراع سيستمر بمختلف الأشكال بين أمريكا وروسيا حول المنطقة، وبالتالي فإن روسيا ستحاول بكل ما في وسعها فرض هيمنتها على الثروات الموجودة في شرقي الفرات لإعادة تعويم النظام السوري وفقاً لرؤيتها للحدث السوري، لأنه في ظل العقوبات الاقتصادية المفروضة على النظام والتهديد بقانون قيصر سيؤثر بشكل سلبي على مسار الفاعلية الروسية في سوريا، ومن أجل ذلك يمكن أن يتأزم الوضع ليذهب إلى أبعد من الاعتراض الأميركي للدوريات الروسية، ولربما حدوث صدام بينهما في مرحلة معينة، خاصة أن الولايات المتحدة رفضت الانسحاب من العراق واستقدمت مزيداً من القوات على خلفية تصفيتها لقاسم سليماني، واستغلال روسيا لهذ الحدث بأحد جوانبه وتبعاتهعلى أمريكا للخروج من المنطقة بغية الوصول إلى الحدود العراقية، ومن هنا تبقى احتمالية حدوث صدام قائمة في ظل واقع رئاسي لولايات المتحدة متهم بنوع من التواطؤ مع السياسة الروسية، لذلك لا أعتقد بأن الولايات المتحدة ستستجيب في نهاية المطاف للرؤية الروسية، بل على العكس تماماً ستحاول الولايات المتحدة ترميم أخطاء إدارة ترامب وكسب ثقة حلفائها وشركائها في سوريا والعالم العربي من جديد لتفادي انزلاق المنطقة برمتها نحو حرب لا منتصر فيها سوى روسيا وإيران اللتين تسعيان لفرض أجنداتهما على جميع القوى المنهكة.