تُمثِّل القُدرةُ على صناعة التاريخ امتحانًا حقيقيًّا للإنسان ، في رحلته داخل نفْسه وخارجها. وهذا الامتحان لا يقوم على ثنائية ( الأسئلة / الأجوبة ) ، وإنما يقوم على ثنائية ( الصُّمود / التَّكَيُّف )، إذ إن وُجود الإنسان الفِعْلي والفَعَّال لا يتكرَّس في بنية العلاقات الاجتماعية، إلا إذا صَمد الإنسانُ في وجه التحديات المصيرية، ونجح في تجاوزها ، وتَكَيَّفَ معها. وهذا التَّكَيُّف لا يعني الذوبان فيها، ولا الاستسلام لها، بَل يَعني العمل المتواصل لإيجاد حُلول للمشكلات الفردية والجماعية،لأن المشكلات جُزء مِن تركيبة المجتمع الإنساني، وهي دليل على حياة المجتمع وحيويته ، وسَعْيه إلى العمل الدؤوب، وصناعة الإنجازات،والتَّقَدُّم إلى الأمام. ووجود الأخطاء طبيعي ومُتَوَقَّع، لأن كُل مَن يَعْمَل مُعرَّض للخطأ، ومَن لا يَعمل لا يُخطِئ. ووجودُ المرض ومُقاومته دليلان على حياة الإنسان وإرادته وإصراره، والميت _ وَحْدَه _ لا يُصاب بالمرض ولا يُقَاوِم.والباحث عن مجتمع بلا مشكلات، كالباحث عن حياة بلا مَوت.

2

رحلة الإنسان في هذا الوجود عبارة عن حركة تصحيحية مُتواصلة ، تهدف إلى تصحيح الأخطاء، وتدارُك ما فات، وإنقاذ ما يُمكن إنقاذه. ولَن يَنجح الإنسانُ في صناعة التاريخ إلا إذا تحرَّر مِن الخَوف. وأكبر خطر يُهدِّد الإنجازَ البشري والتقدُّم الحضاري، هو ترك العَمل خَوفًا مِن ارتكاب الخطأ، والوقوف على الحِياد خَوْفًا مِن لَوم الناس وعِتابهم، وعدم أخذ زِمام المُبادرة خَوفًا مِن رَدَّة فِعل المُجتمع. وهذه الرَّهبة المُتجذرة في نفوس الكثيرين، تُحطِّم المَواهبَ، وتَقتل الإبداعَ، وتَجعل الإنسان مَيتًا في الحياة، بلا هُوية مستقلة ولا شخصية اعتبارية. وبسبب الخَوف، والتفكيرِ في أحكام المُجتمع المُسبقة، وعدمِ الثِّقة بالنَّفْس، يتحوَّل الإنسانُ إلى شبح فارغ، وظِل باهت، وتابع مكسور، وجُزء مَنسي في المجموع الكُلِّي، بلا أحلام ولا آمال. وعِندئذ، يَخسر المجتمعُ مواهبَ أبنائه الإبداعية وطاقاتهم الهائلة. وكثير مِن الناس لَدَيهم وجهات نظر خاصَّة، وكلام تحليلي للأحداث، وبُنى فلسفية عميقة، ومعَ هذا، يَلُوذون بالصَّمْت، ويَدفِنون كلامَهم في قلوبهم، خَوْفًا مِن نَظرة المجتمع، أو رَدَّة فِعل الآخرين ( السُّخرية، الاستهزاء، التَّوبيخ ) . ومَواهبهم الذاتية وإمكانياتهم الشخصية تُؤهِّلهم أن يَكونوا قادةً للرَّأي في المُجتمع الإنساني ، ومعَ هذا يَقبلون بدور الكومبارس، والتابع لإفرازات العَقل الجَمعي، والخاضع للأفكار الشَّعبوية التي تَمَّ ترسيخها كمُسلَّمات، بفِعل ضَغط الجماهير، وهَيَجَان الرأي العام، وليس بفِعل الدليل الصحيح، والمَنطق السديد. وسُلوك الجماعة بلا تفكير ولا تخطيط يُجذِّر سياسةَ القطيع في المجتمع الإنساني، ويَقوده إلى الهاوية السحيقة، لأنَّه أغفلَ الحُجَجَ والبراهين، واعتمدَ على الأفكار الشَّعبوية العاطفية، والمشاعر الجماهيرية الحماسية . والرَّأي الصحيح يُؤخَذ بالحُجَّة القوية ، وليس بالأغلبية . وعلى الإنسان أن يثق بنفْسه وإمكانياته، ويَمتلك الشجاعة للتعبير عن آرائه بشكل هادئ وعِلمي ومنطقي، لأنَّه الخَوف سيقتله مِن الداخل، ويَجعله كيانًا مُفرغًا مِن الحُلم والإبداع والإنجاز، وهذه العمليةبداية الانهيار والنهاية، لأن الكيان الإنساني الفارغ سيسقط، كما تَسقط العمارة المُفرغة من الهواء بفِعل الضغط الخارجي. وكما قال الزعيم الهندي غاندي : (( في البداية، يَتجاهلونك ، ثُم يَسخرون مِنك، ثُم يُحاربونك، ثُم تنتصر ! )).

3

الذكاءُ الاجتماعي على الصعيدَيْن الفردي والجماعي يقوم على ثلاثة أركان : أ_ الذهاب إلى أبعد نُقطة بأقل تكلفة. ب_ التأقلم مَعَ الظروف الصعبة، وتَطويعها، وتحويلها مِن مِحْنة إلى مِنْحة. ج _ الإمساك بطَرف الخَيط مَهْما كانت التهديدات والضغوطات، لأن التَشَبُّث بطرف الخَيط يعني أن الإنسان على الطريق الصحيح، وسيصل إذا واصلَ المشي، مهما كان بطيئًا وضعيفًا. ولكن فقدان طَرف الخَيط يَعني خسارة الطريق، وضياع الإنسان في متاهة. ولا فائدة مِن التقدُّم، والمشي بسرعة، وصَهر المراحل، إذا كان الطريقُ خاطئًا، كما أنَّه لا فائدة مِن سُرعة القِطار إذا كان في الاتِّجاه الخاطئ.

4

عندما يصل المجتمعُ الإنساني إلى الحضيض، ويغيب اليقين، وينتشر الشَّك، وتزول الثِّقة بالنَّفْس، ويُصبح الشُّركاء في الوطن أعداء، وتصير مؤسسات الوطن عِبئًا ثقيلًا على المواطنين، تُصاب الجماهيرُ بالعَمى الأيديولوجي، وتفقد القُدرة على التمييز، وتتكرَّس سياسةُ القطيع كحالة نهائية للخلاص الوهمي، ويَؤول العقلُ الجَمعي إلى عواطف غير منطقية، وإفرازات اجتماعية مَهووسة، وتُصبح الحُرِّيةُ خطرًا على الناس، لأن الحُرِّية مسؤولية، وإذا عَجِزَ الإنسانُ عن تحمُّل المسؤولية، ولم يَستطع تقدير قيمة الحُرِّية، ولم يَقدر على استخدامها في المجال الصحيح، سوف يُؤذي نَفْسَه، ويضرُّها بدلًا مِن أن يَنفعها. والأمرُ يُشبه إعطاء طِفل سِكِّينًا كَي يَقطعتُفاحة ويأكلها. إن هذه العملية تهديد لحياة الطفل، ولَيست حِرصًا على تغذيته وتَقوية جِسمه.وينبغي أن نعرف أن الزعيم النازي أدولف هتلر وَصَلَ إلى السُّلطة بانتخابات ديمقراطية حُرَّة ونزيهة، وفقًا لقواعد السُّلوك الانتخابي، ولم يجئ بانقلاب عسكري، ولم يَسفك قطرة دم واحدة في طريقه إلى الحُكم. ولكن النتيجة كانت كارثية، ومعروفة للجميع. وهذا يعني أن الجماهير التي منحته أصواتها الانتخابية كانت في حالة غرق، والغريق يتعلَّق بِقَشَّة ، أو يتعلَّق بحبال الهواء . صحيحٌ أن هذه حالة نادرة، والنادر لا حُكم له، ولكن حُدوث شيء مَرَّة واحدة على أرض الواقع، يَعني أن احتمالية تَكراره واردة. وكُل إنسان لا يَعرف قيمةَ النِّعمة سيجعلها نِقمةً، وتَكون وَبالًا عليه. والشعوبُ التي لا تَعرف معنى الحُرِّية، سوف تستخدمها لذبح نفْسها. وهذا ليس دفاعًا عن الاستبداد، أو دَعْمًا للطغاة، ولكن ينبغي معرفة أن الحُرِّية مُمارسة تعليمية تدريجية جماعية، ولَيست قفزة في المَجهول، أو انتقالًا مِن الوجود إلى العدم، أو تفكيكًا لمؤسسات الدولة، أو تدميرًا للمُنجزات الوطنية الحضارية ، أو إضاعةً لحاضر الشعوب ومُستقبلهم. ومَن أرادَ تعلُّم السباحةَ، عليه أن يَذهب برفقة مُدرِّب إلى بركة ماء صغيرة، ولا يَذهب إلى البحر وحيدًا، لأنَّه سيغرق حَتْمًا. والحُرِّيةُ شُعلة نار، قد تُنير طريقَ الإنسان في الظلام ، وتُوصله إلى أهدافه وأحلامه، وتَجلب له الدفء، وتُوفِّر له الحماية مِن الأعداء. وفي نَفْس الوقت، قد تُنهي حياةَالإنسان، وتحرق الأخضرَ واليابس، وتَجعل الحياةَ جحيمًا لا يُطاق.