ليسوا وحدهم شركاء تفاهمات "استانا" حول سوريا في حلقة الشكوك المتبادلة والتموضع على حساب الآخر إقليمياً عبر البوابة السورية، بل ان اللاعِبيّن الأميركي والإسرائيلي يتداخلان مع الثلاثي الروسي – الإيراني – التركي ميدانياً وفي إطار التنافس الاستراتيجي الإقليمي. الرئيس السوري بشار الأسد ما زال حيويّاً للديبلوماسية الروسية لأنه مفتاح شرعنة تواجدها في سوريا عسكرياً واستراتيجياً على أساس أن هذا التواجد أتى بدعوة من الحكومة السورية عكس الغزو والاحتلال الأميركي للعراق – من وجهة النظر الروسية. قد يكون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فخوراً بإنجازاته في سوريا وعبرها انطلاقاً من استعادة الهيبة الروسية التي كان الغرب حاول اقتلاعها عبر البوابة الليبية وانتهاءً بالتموضع استراتيجياً على البحر الأبيض المتوسط في قواعد عسكرية شبه دائمة لعقود.

لكن فلاديمير بوتين ليس في منتهى الاطمئنان لأن سوريا ما زالت مشروع تورّط في مستنقع أو في مواجهات اما في استنزاف وهو لا يثق بالنوايا والإدعاءات الأميركية ولا بشريكيه الإيراني والتركي في الميدان السوري. علاقته مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لم تكن يوماً منبثقة من ارتياحٍ له بل رافقتها دوماً الشكوك بغاياته ونزاهته وطموحاته والاضطراب من شخصيته. فما يجمع الرجلان من قاسمٍ مشترك يفرّقهما إذ أن كلاهما مصابٌ بالغرور والغطرسة ولا يطيق الآخر في عمقه.

ما حدث هذا الأسبوع من اشتباكات روسية – تركية في سوريا كان متوقعاً وهو خطير. الأخطر لربما آتٍ لأن مشروعي بوتين وأردوغان يتضاربان جذرياً إقليمياً فيما يتعاونا سورياً. فأردوغان يتبنّى عملياً إدارة طموحات جماعة "الاخوان المسلمين" ويدفع بها بأي ثمنٍ كي تشق له طريقه الى مجد قيادة السُنّة. أما بوتين فإنه يعتبر هذه الجماعة وكل أدوات القتال السنّي التي يستخدمها أردوغان إرهابية وتدميرية بما في ذلك للطموحات الروسية. طاقة بوتين على تحمّل مشاريع القيادة الإسلامية تتّسع مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية أكثر من هضمها للمشاريع التركية بالرغم من أن كلاهما شريك ميداني في سوريا.

فإيران حليف استراتيجي لروسيا تكرّس أذرعها للقتال بجانب روسيا دعماً للنظام في دمشق، لكنها تبقى بحسب التفكير الروسي شريكاً صغيراً junior يسبّب لها مشاكل كبيرة. علاقة روسيا بإسرائيل، مثلاً، متطوّرة بالذات في سوريا، مما لا يناسب إيران، وهناك علاقة شخصية بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو الذي نجح بأن يبدو مدلّلاً ليس فقط لدى الرئيس الأميركي دونالد ترامب بل أيضاً لدى بوتين وأردوغان معاً، حسب مزاعمه. فلقد صرّح نتانياهو هذا الأسبوع ساخراً أن أردوغان يسمّيه "هتلر" لكن التجارة بين إسرائيل وتركيا "منتعشة".

وفي خِضمّ المعركة بين تركيا من جهة والمحور الذي يضم النظام وإيران وروسيا، قصفت إسرائيل مواقع سورية – إيرانية بقرب دمشق في أول غارات لها منذ اغتيال قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني في مؤشر على عزمها قطع الطريق على ترسيخ التموضع الإيراني في سوريا. إزاء هذا المشهد المتداخل والمعقّد، يطلّ العملاق الأميركي حيناً بصورة مباشرة ويلقِي بظِلاله حيناً على مشاريع الآخرين وهو اليوم يزهو بثوبٍ جديد يرتديه دونالد ترامب في أعقاب إنهاء جهود عزله واثقاً أن الولاية الثانية في جيبه وأن عواصم العالم في صدد إعادة رسم سياساتها على أساس بقائه في البيت الأبيض لخمس سنوات مقبلة.

أولى العواصم التي تدقّق اليوم في خياراتها هي طهران التي استمرت في الرهان على احتمال عزل ترامب ورسمت سياساتها على تمنياتها بعودة الحزب الديموقراطي الى البيت الأبيض. الآن، الأرجح ألاّ ينتصر منطق التيار المتشدّد المتمثّل في "الحرس الثوري" و"فيلق القدس" في هذه المرحلة الانتقالية بالرغم من أنه يتمتع بدعم مرشد الجمهورية آية الله علي خامنئي. فالجمهورية الإسلامية تحتاج الى إعادة النظر في وضعها الداخلي والإقليمي والدولي ولذلك تختار التهدئة المرحلية لدراسة الخيارات المتاحة وتدعو شركائها مثل "حزب الله" في لبنان الى ضبط وتيرة التصعيد بما في ذلك التصعيد اللفظي على نسق تعهّد الأمين العام حسن نصرالله بإعادة الأميركيين "أفقياً" الى بلادهم عبر النُعوش.

طهران مضطرة الى احتواء الضرر بقدر الإمكان في الساحة اللبنانية حفاظاً على سلطتها هناك لأن الساحة العراقية تخرج عن سلطتها عبر الانفلات الأمني وعبر الانقلاب على المشاريع الإيرانية للعراق. لجأت الى القمع كوسيلة لاحتواء الثورة عليها في العراق وستفعل ذلك في لبنان إذا اضطرت. لكنها تفضّل وتعمل على احتواء الثورة اللبنانية بوسائل أخرى تجنّباً للوقوع في فخ القمع الذي سيكلّفها غالياً سيما وأن النظام في طهران مضّطر لقمع الانتفاضة الداخلية عليه لأنها تهدّد مصير بقائه.

المصادر المقرّبة من التفكير في طهران أفادت أن القيادة الإيرانية تعتبر ان الوضع الراهن لصالحها ما بعد تشكيل الحكومة الجديدة على هوى "حزب الله"، وهي تريد تدعيم سلطة "حزب الله" على لبنان. لذلك، وبالرغم من الضيقة المالية التي تواجهها، تعتزم طهران توفير جرعة دعم مالية الى "حزب الله" كي لا يبدو هشّاً وكي يثبّت قاعدته الشعبية. وقالت هذه المصادر ان إعادة توزيع ميزانية المشاريع الإقليمية الإيرانية اضطرت بطهران الى الاقتطاع من ميزانية اليمن لتحويلها الى ميزانية لبنان والعراق، ثم سوريا.

القيادة الإيرانية منشغلة بقراءة ماذا سيفعل دونالد ترامب ما بعد انتصاره على مشاريع عزله وما هي خطواته التالية نحوها سيما وأنها مستمرة في برنامجها النووي. هذه القيادة كفّت عن الحلم بانقاذٍ أوروبي لها من ورطة العقوبات بالرغم من إصرارها العلني على إعطاء أوروبا الفرصة الأخيرة قبل أن تأخذ الخطوة الكبرى بإعلان انسحابها من الاتفاقية النووية وربما أيضاً من معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية.

وهي تعي تماماً ان توعّدات دونالد ترامب وإنذاراته لها بألاّ تُقدِم على مثل تلك الخطوة ليست مجرد تهديدات لفظيّة وإنما يتم اتخاذ الاستعدادات لتنفيذها بإجراءات عقابية بأبعد من العقوبات الاقتصادية والحصار، إذا لم تتوقف طهران عن برنامجها النووي.

فالجمهورية الإسلامية الإيرانية فعلاً مطوّقة أكثر وأعمق بوضوح أرجحية فوز دونالد ترامب بولاية ثانية كرئيس للولايات المتحدة. أمامها اما الانتحار إذا انتصر التصعيد والانتقام حفاظاً على استمرارية منطق النظام، كما هو. أو إصلاح وتعديل ذلك المنطق والدخول في مفاوضات على اتفاقية جديدة مع الولايات المتحدة تشمل الشق النووي والصاروخي وكذلك شق التوسّع الإقليمي في الجغرافيا العربية.

ثم ان طهران تواجه صعوبة في شراكاتها مع روسيا بالرغم من ثبات مبدأ التحالف ميدانياً في سوريا – منها ما يتعلق بالبُعد الإسرائيلي ومنها ما يصب في خانة افتراق المشروعيّن الروسي والإيراني في سوريا بالرغم من التقائهما على دعم الأسد.

روسيا، بحسب مصادر روسية، تثمِّن علاقاتها مع إيران وتعتبرها شريكاً أساسياً في "مكافحة الإرهاب" كما تراه موسكو. أي أن الانتصار على "داعش" وعلى "جبهة النصرة" في سوريا أتى جزئِياً "بفضل" إيران و"حزب الله" حسب التفكير الروسي. لكن انفتاح روسيا على الدول الخليجية العربية – الى جانب مصر – والذي يُزعج الجمهورية الإسلامية الإيرانية لن يتوقف، والكرملين ليس راغباً بتشجيع مشروع "الهلال الفارسي" عبر امتداده في سوريا. وهنا يلتقي مع البيت الأبيض، وكذلك مع إسرائيل.

موسكو تشكك دوماً بالإعلان الأميركي عن انسحاب من سوريا وهي ترى أن "استمرار الوجود الأميركي هو الذي يعرقل خريطة الطريق الى تطبيع الأوضاع في سوريا" حسب المصدر المطّلع على السياسة الروسية. وبالتالي أن "إمكانية التفاهم مع الأميركيين ضئيلة، وعملياً غير متوفرة". ولكن، ان "التصادم بين روسيا وأميركا غير واردٍ" في سوريا "وهذا أساسي" يقول المصدر ويضيف "الأميركيون موجودون ونحن لن نتصادم معهم".

روسيا لا تريد أن تتصادم مع تركيا أيضاً نظراً للاحتياج لها. لذلك ان صياغة الأوجه الجديدة من التعاون بين موسكو وأنقرة واردة بالرغم من وقوع الاشتباكات العسكرية خلال المعركة على أدلب – المعركة الضرورية والمصيرية بالنسبة لبشار الأسد التي تخوضها روسيا معه.

إنما كما كانت تركيا أساسية في فوز روسيا بحلب وانتصارها في تلك المعركة المصيرية لها، ان أدلب رئيسية في التجاذبات الروسية – التركية على أنقاض السوريين بمشاركة نظام الأسد. لذلك يعضّ بوتين على شفته أمام استفزازات أردوغان له ليس فقط في سوريا وإنما أيضاً في مواقفه نحو أوكرانيا ومشاريع توسّعه العسكري في ليبيا.

ليببا باتت ساحةً لتصدير المرتزقة والإرهابيين والمقاتلين الخارجين من سوريا ليكونوا حجارة في لعبة الاستقطاب. رجب طيب أردوغان يستخدم ليبيا اليوم ترويجاً لطموحاته الاقليمية وزعامته لمشروع "الإخوان المسلمين" الذي يريد تنميته وتقويته وتغذيته ليضرب استقرار السعودية والإمارات والدول المجاورة لليبيا وفي مقدمتها مصر. بوتين يعارض توجهات أردوغان في ليبيا، وفي هذا الموقف انه أكثر قرباً من مصر والدول الخليجية العربية المعنية مما هو من تركيا ويلعب دوراً بجانب هذه الدول في المسألة الليبية.

من سوريا الى ليبيا الى العراق ولبنان تتعارض أولويات شركاء عملية "استانا" وتتداخل الاشتباكات بالديبلوماسية وبالمصالح المتضاربة عبر ضبط إيقاع التفاهمات حيناً وعبر الاضطرار الى التأقلم مع الفيل الضخم الحاضر الغائب في الغرفة. فالجميع يتأهّب وينظر خلف كتفه لأنه يعي اليوم ان العقوبات التي اعتمدها دونالد ترامب كسلاحه الأول ضد أطراف "استانا" – لاعتبارات خارج أو داخل النافذة السورية – إنما هو من أكثر الأسلحة حدةً وفتكاً ودفعاً الى حتمية أخذ العلم بالمواقف الأميركية ببالغ الجديّة، والى اعادة النظر.