"لم يسبق للبنان أن مرّ بأزمة مماثلة، حتى إبان الحرب"... كثيراً ما تتردد هذه العبارة على مسامعك في لبنان، وهي ليست مجرّد جملة عابرة في أحاديث عابرة، هي واقع مُر يرزح تحته الشعب اللبناني.

نعم لم يسبق للبنان أن مرّ عليه سياسيون فاقت وقاحتهم فسادهم بهذا الشكل... نهبوا البلد وما زالوا يحاضرون بالعفة... لم يسبق لنا أن شهدنا في لبنان غياب الضمير بهذا الشكل... نحن وهذا البلد الصغير تحت رحمة جلادي السياسة منذ سنين، ولكن لم يسبق لنا أن كنا تحت رحمة جلادين أينما ذهبنا... حتى بائع الخضار تحوّل إلى جلاد عندما سنحت له الفرصة!

إلى متى سيصمد هذا الشعب؟ يحاول الصمود وإن كانت الكلفة خصوصاً الصحية والنفسية باتت باهضة جداً!

في 17 تشرين الأول 2019 أَمل اللبنانيون بالتغيير، أملوا أن يتردّد صدى الأصوات الصادحة في الشوارع ويحدث ما يشبه الزلزال على رؤوس من أوصلوا البلد إلى هذه الهاوية.

أملوا أن يُحاسب السياسيون الذين نهبوا البلد على مدى عقود، ويُجبروا على إعادة الأموال المنهوبة.

أملوا أن تُضبط مزاريب الهدر...أملوا بوطن يطوّق الغابة التي كثرت فيها الوحوش... ولكن على أرض الواقع، التغيير كان للأسوأ!

على المستوى المعيشي، ارتفعت أسعار السلع الاستهلاكية، ومن بينها المواد الغذائية، بشكل جنوني اذ وصلت الزيادة على الكثير من المنتجات إلى الـ 50 في المئة.

وفي المقابل أغلقت الكثير من الشركات أبوابها وتخلّت مؤسسات عن عدد كبير من موظفيها، فيما توجهت أخرى إلى تقليص المعاشات إلى النصف. وبحسب أرقام حملة #مش_دافعين هناك 160 ألف لبناني طردوا من عملهم بشكل تعسفي، وهناك 40 –50 ألف عائلة غير قادرة على سداد قروضها المصرفية.

عندما نتحدث عن القروض لا بد من الحديث عن المصارف التي تُذل اللبنانيين على أبوابها، فبعد انتظار قد يصل إلى ساعات في بعض البنوك، سقف السحب الذي حدده المصرف هو 200 $ كل 15 يوماً، ومنع عن المواطن حقه بدفع أمواله من الدولار في الخارج عبر البطاقات!

على أبواب المصارف ذل آخر للمواطن، ففي الوقت الذي حدّد البنك المركزي سعر صرف الدولار بـ 1517- 1518 تمتنع المصارف عن صرف الدولار للعملاء، وبكل بساطة ليس أمامهم سوى شراء الدولار من محلات الصيرفة التي تحوّلت إلى سوق سوداء تتاجر بالناس... هذا من دون أن نغفل الاقتطاع العشوائي من الحسابات، دولار من هنا وآخر من هناك... ببساطة سرقة فوق سرقة.. من يحاسب؟ لا أحد!

كل ذلك والسلطة تعيش على كوكب آخر، فعلى المستوى الرسمي، أعادت السلطة انتاج نفسها وشكّلت حكومة استبعدت منها الأسماء المعروفة بالشكل، استقدمت أسماء جديدة ظاهرها اختصاص وباطنها ولاء لنفس الزمرة الحاكمة.

حكومة يطلقون عليها حكومة انقاذ، أي انقاذ وأي تحد للعقبات بحكم بنفس العقلية؟ حتى لم تُكلف الحكومة العتيدة نفسها عناء وضع موازنة جديدة، تبنت موازنة الحكومة السابقة... تلك التي أسقطها الشارع! ويمارس السياسيون طوباوية القداسة وينظّرون على بعضهم البعض... بكل وقاحة!

كل ذلك ينعكس غضباً اضافياً في الشارع، غضب دفع بالكثير من الشباب إلى طرد عدد من السياسيين من أماكن عامة، ما لم يشهده لبنان سابقاً اذ دأب السياسيون على التعاطي بفوقية كرستها لهم مواكبهم.

هذا داخلياً، أما خارجياً أُهين وزير الخارجية السابق في دافوس، أُهين عندما أحرجته مذيعة CNBC عندما سألته من أين لوزير معاشه 5000 دولار أن يمتلك طائرة خاصة.. أهانته بتوجيه أصابع اتهامه بالفساد خلال كل المقابلة، ولكن الإهانة لم تدفعه إلى الخجل حتى... ففي بلدنا يفتخر ويتكبر بما أُهين عليه في الخارج... بالمال الذي من حقنا أن نسأله من أين له ذلك... هو نفسه المُهان في حضرة الأوروبيين، يأمر في بلدنا وينهي، يستدعي محاوريه إلى منزله وبدل أن يُحرجوه، يُلمع صورته على ظهرهم!

ماذا لو كانت الأسئلة التي طرحتها المذيعة هادلي غامبل استجواب يطرحه قاضي نزيه في جلسة محكمة؟ استجواب لا يطال وزير الخارجية السابق فحسب بل كل تلك الزمرة الحاكمة التي هرّبت مليارات الدولارات إلى الخارج وتشّد على يد حاكم مصرف مركزي ومصارف تضيق الخناق على مودعين صغار، مودعون خبأ كثر منهم قرشهم الأبيض ليومهم الأسود، جاء اليوم الأسود وحُجب القرش الأبيض في بلد يفتقد لأدنى معايير العدالة الاجتماعية!

ماذا بعد؟ بات استحقاق دفع الديون المترتبة على لبنان على الأبواب، من أين سيدفع؟ هل سيستطيع أن يدفع؟ وما هي السيناريوهات التي تنتظره؟ أسئلة كثيرة حلُها واحد، حبذا لو يستطيع هذا البلد أن يسترد ولو بعضاً من أمواله المنهوبة!

لمن يسأل كيف حال لبناننا، وكيف حالنا فيه... البلد الذي صدّر المفكرين والمبدعين إلى العالم بات مثقلاً بالإذلال، ينوء أبناؤه تحت شتى أنواع الأحمال: النفسية، المعيشية، الاجتماعية، الاقتصادية... يمضون أيامهم خوفاَ من جوع الغد وترقباً للأسوأ... ولكنهم غاضبون... غاضبون نعم والغضب شرارة قد لا يكون السياسيون يحسبون ماذا يمكن أن تُشعل وماذا ستحرق بشرارتها!