الدولة هي نتاج لتطور البشرية في تنظيم اجتماعها. هنالك الكثير من التنظيرات حول هذا المخلوق اللوثاياني.

في الحقيقة اذا عدنا الى هيغل، والذي يتحدث عن هذا المخلوق بوصفه فكرة مطلقة. هذه النظرية التي تعرضت لانتقاد ماركسي لينيني عميق، باعتبارها مخلوق مادي يعبر عن الصراعات الطبقية في مجتمعها. كونها اداة الطبقة المسيطرة.

في الزمنالحديث والمعاصر هي الطبقة البرجوازية. لكن كان للماركسي الفذ انطونيو غرامشي رأيا نقديا لنظرة انجلز ولينين، حيث يعتبر هذا المخلوق اوسع من هذا التعبير اللينيني الضيق. هي تعبير عن مجتمع مدني ومجتمع سياسي. صراع بين هذا المجتمع المدني وبين المجتمع السياسي احيانا، واحيانا يتكاملان في انتاج السيطرة والهيمنة للحفاظ على هذه الدولة. لن اناقش مفهوم ميشيل فوكو حول الدولة والسلطة، لأنه باعتقادي لا يخص بلداننا بشكل مباشر، وفيه من اللغو الكثير رغم اهميته. يحتاج الى نقاش خاص موسع.

من هذه المقدمة السريعة ازعم ان ما قاله الجميع ممن ذكرتهم صحيح بالمعنى النسبي للعبارة. ما يتعلق بهيغل ارى من المفيد التفكير بما طرحه، اذاحاولنا زحزحة مفهومه، لنستنتج الدولة تأسيسا مخلوقا متعال ذا سيادة، لأن" الفكرة المطلقة" عند هيجل لها الموقع السيادي. السيادة مفهوم تتغنى به الدول، وعالجه الفكري الفلسفي بغزارة. متمحورة حول مفهوم" السيد" المقارب لمفهوم" الله" حيث يعرفها الفيلسوف الفرنسي جان بودان" السيادة هي سلطة الدولة العليا المطلقة والأبدية والحازمة والدائمة التي يخضع لها جميع الأفراد رضاء أو كرها". لولا هذا التعالي وهذه السيادة في نشوئها، لما حافظت هذه الدول على خرائطها المجتمعية رغم الصراعات الداخلية، ولا خرائطها الجيوسياسية. هذا الاحساس بالانتماء لدى الفرد يحتاج لتعالي سيادي من جهة ولتمثيل سياسي ولتحقيق حقوقه من جهة أخرى. أي خلل في هذه الاسس الثلاثة تنهار الدولة. الاشكالية الحقيقية في موضوعنا هذا، هو العلاقة بين الدولة هذه والسلطة في بلداننا. هذا هو اهتمام المادة هنا. لان غالبية من يعالج هذه العلاقة، يمزج عامدا او غير عامدا بين السلطة السياسية والدولة في بلداننا.

لابد من القول ان السيادة ايضا يمكن لها ان تنهار بلحظة صراعية، تؤدي الى تفتت هذه الدولة ذاتها، هنالك من يغالي بهذا المفهوم، حيث يرى انه حتى لو انهارت الدولة لا تنهار سيادتها. بقدر تعالي هذه السيادية، بقدر ارتهانها للحركية المجتمعية، بما فيها من صراعات سلمية او حتى عنفية. بما فيها من مصالح متضاربة، وطبقات ومراكز قوى. وهيئة مجتمع مدني محكومة بمستوى سياسي، تتكامل معه احيانا للهيمنة والسيطرة بالتالي، وأحياناتخوض معه صراعات شتى.

هذا المزج هو نتاج ابتلاع السلطة السياسية عندنا للدولة وسيادتها. ابتلاع قهري بقوة اجهزة هذه الدولة نفسها. اجهزة القوة والقهر الجيش والشرطة والاستخبارات. هنا لا بد من الوقوف على قدرة شخص واحد، او عائلة واحدة بالسيطرة على دولنا. يجب ان نغوص في تفاصيل هذه المقدرة. ديكتاتوريات فردية او عائلية تستولي على الدولة في لحظة ما، ليست بغفلة من التاريخ، بل في صلبه وصحوه. لدرجة المفاجأة احيانا. كأن بنا نرى ديكتاتورا ينزل بمظلة من السماء.

المثال الاكثر معاصرة هو عبد الفتاح السيسي. نزل على المجتمع المصري وصار "مقدسا" عند المستوى السياسي. نزل دون سابق معرفة تقريبا، ودون اية لحظة انتخابية. استولى على الدولة المصرية بقوة جهاز الجيش والمخابرات.

هنا لابد من توجيه بعض الاسئلة التوضيحية: كيف استطاع شخص كالسيسي الاستيلاء على حركة الجيش؟ كيف اقنع ضباط الجيش بالانقلاب؟ وهل تم الاقناع بين عشية وضحاها؟ ام ان الموضوع مخطط له من قبل؟ هل استشار الدولة الاكثر نفوذا في مصر وهي امريكا؟ ام ان امريكا اوباما هي من اعدت هذا" البلحة" ليستولي على الجيش والدولة والبلد؟ كيف لأمريكا ان تتحكم بجيش مصر؟ واخيرا لماذا امريكا قامت بما قامت به؟

مثال آخر الانقلاب الذي حدث في تركيا منذ اربعسنوات وفشل. يمكن ان يستغرق نفس الاسئلة. لكن يضاف هنا سؤالا: من حمى الدولة التركية من عودة العسكر والسلطة السوداء؟

قبل ان نحاول ابداء رأينا، تحضرني لحظة الانقلاب الاسدي في سورية عام 1970. الطريف بالموضوع، ان السوفييت آنذاك وقبيل الانقلاب بفترة قصيرة، كانت قد حذرت بعض مقربيها في سورية.

من ان هنالك انقلاب يميني قادم في سورية، باعتبار ان تقييم السوفييت للسلطة الشباطية بوصفها" سلطة يسارية" هذه السلطة من قام الاسد بانقلاب عليها ووضع كل رموزها بالسجن حتى فارقوا الحياة. فجأة بقدرة قادر صار السوفييت الصديق الاقرب ظاهريا، لقائد هذا الانقلاب اليميني.

الذي هو بالطبع حافظ الاسد. ذاكرتي تعيدني الى مصدر واحد لهذه الحادثة، قرأته في كتاب عن تاريخ البلدان العربية المعاصر من اصدار دار التقدم المشهورة آنذاك في موسكو أيام السوفييت. والتي اكدها لاحقا بعض قياديي البعث والحزب الشيوعي السوري. الذي كان ضد الانقلاب! وانقلب سريعا الى حليف له في جبهة اسماها الاسد" جبهة وطنية تقدمية".

لابد من العودة سريعا للحظة التأسيسية الاستعمارية لدولنا هذه. اقصد فترة خروج الاحتلال العثماني لصالح الاستعمار الانكليزي الفرنسي، بعيد انتصاره في الحرب العالمية الاولى. حيث في العهد العثماني لم يكن هنالك دول في مشرقنا بل ولايات تتبع للدولة المحتلة في استانه.

يورد التاريخ ما يعرف باتفاقية سايكس- بيكو 1916 التي قسمت الشرق الاوسط، فيما بينها. الاستثناء الوحيد كانت ليبيا، حيث تركت للطليان.
الامارات والممالك الخليجية كما هو معروف تأسست، بوصفها دول مستقلة بقرار انكليزي ايضا.

لم يكن لحركة شعوب تلك الدول أي دور في هذا التأسيس. بل عبارة عن علاقة العائلات المسيطرة مع الانكليز مباشر دون وسيط. دون ارضية تاريخية ما خلا قوة الامبراطورية الانكليزية، التي لا تغيب عنها الشمس آنذاك. طبعا هذا لا يعني اننا نغفل عن تفاصيل نشوء كل دولة على حدا. واهمية هذه التفاصيل. لكننا هنا بصدد اثبات ان هذه الديكتاتوريات الفردية والعائلية في الممالك والامارات والجمهوريات في هذه المنطقة من العالم تأسست بفعل الاستعمار الانكليزي الفرنسي.

ثم لاحقا استولت امريكا نسبيا على تلك العلاقة بحكم انها كانت الطرف الاقوى عالميا. بعد الحرب العالمية الثانية. حيث صارت العلاقة بين هذه السلطات وامريكا مباشرة ام غير مباشرة، هي السبب الرئيسي والاساسي في استمرار هذه السلط الغاشمة. هنا في نفس اللحظة التأسيسية حدثت الكارثة المستمرة،

بوصفها كارثة مستدامة. هي انفصال قهري بين موجبات وجود الدولة الناشئة حديثا وبين متطلبات سلطات فاشلة فاسدة ومشخصنة. هذا الامر ينطبق على كل الدول العربية ما عدا لبنان. للبنان تجربته المارونية- الفرنسية الخاصة. صارت السيادة للديكتاتور والعائلات الحاكمة وليس للدولة. هذه المفارقة لانزال نعيش في ظلها. ونتعرض للابادة في استمرارها.
هذه اللحظة الفارقة هي اللحظة التأسيسية الحاكمة حتى اللحظة.

كان لابد لهذه اللحظة ان تغتال دور الدولة، بكل ما يستتبعه من مفاهيم ومؤسسات. نفس هذه اللحظة هي التي ينطبق عليها نموذجيا مفهوم" الاستعمار الجديد". لجهة تعبيرها الفعلي عن الجانب المستعمر، بفتح الميم.
يدخل هنا على خط هذه اللوحة بروز السوفييت والمعسكر الشرقي، كقوة منافسة على النفوذ للمعسكر الغربي بعد الحرب العالمية الثانية. دخول العالم في مرحلة ما عرف بالحرب الباردة.

بقيت السلطة مهما كان لونها في بلداننا محكومة بهذا النفوذ ومدعومة منه. كان هو العامل الرئيسي في استمرار هذه السلط الوراثية" فيزيولوجيا" الاسدية نموذجا جمهوريا، وملكيا او حتى انقلابيااحيانا.
بعض العوامل المساعدة على تكريس هذه اللحظة الفارقة، اولا تأسيس اسرائيل.

ثانيا النفط. ثالثا الحرب الباردة. بعد سقوط السوفييت، برزت التنافسات والصراعات على النفوذ بين دول كبرى لاهوية ايديولوجية مختلفة لها. كلها دول ذات انظمة رأسمالية. الصين ليست استثناء.

الثابت الوحيد في كل هذه المتغيرات التي عصفت في العالم منذ تلك اللحظة هو حفاظ هذا العالم على استمرارية دور هذه السلطات المؤسس على تلك اللحظة. بكل حمولتها القمعية والفاسدة والنهابة والابادية عند اللزوم.