التونسي يلعن،كل يوم، الفساد ومرتكبيه في العلن و يأتي على أكثر من ذلك سرا بحسب كل عمليات سبر الآراء التي تطرقت لانتشار ظاهرة الفساد في المجتمع التونسي و تغلغلها في مفاصل الدولة مما دفع احد ابرز القيادة السياسية التونسية محمد عبو إلى اعتبار عمليات الإصلاح المزعومة التي تريد الحكومة المقبلة القيام بها أمرا يكاد يكون مستحيل في ظل الوضع الحالي.

تاريخيا كل الدول المماثلة التي شهدت عملية انتقال ديمقراطي تشهد ارتفاعا كبيرا لمؤشرات الفساد، نتيجة وهن الدولة و التحولات الاجتماعية التي تعرفها المجتمعات في هذه الدول و ما يرافقها من تغيير في نمط الحياة و تقويض أركان الطبقة السياسية التي كانت تحكم، إضافة إلى اندثار طبقات اجتماعية و بروز أخرى غالبا ما ترتبط بالتهريب و الاقتصاد الموازي و بروز ذهنية الربح السريع.

تبقى إرادة الحاكمين الجديد و صدقها في مكافحة حقيقية للفساد هي البوصلة المحددة لاتجاهين، الأول هو رسم إستراتيجية وطنية لمكافحة الفساد و نشر ثقافة النزاهة و الشفافية في كل القطاعات حتى نتخلص تدريجيا من رواسب و مخلفات الانتقال الديمقراطي"السلبي" و المتعلق بانتشار الفساد. و أما ممارسة المخاتلة و المخادعة السياسية ربحا للوقت و تصفية للخصوم السياسيين وهو الأقرب للمثال التونسي. الخط الأول يمكننا من المرور الى دولة عادلة يحترم فيها القانون على جميع مواطنيها مهما علا شأنهم. اما المعادلة الثانية فهي تحملنا لا محالة للفوضى و سيطرة قانون الغاب و غياب الأمل.

تقول أنستازيا زغاينوفا المختصة في دراسة الدول في مراحل الانتقال السياسي و الاقتصادي في كتابها « Les défis de la corruption dans les pays en transition », "إن ممارسة الفساد تتجذر وتنتشر عقب انهيار بنى الدولة بعد فترات الحروب أوخلال التحولات الديمقراطية واقتصاد السوق. الفساد غالبا ما يكون في تداخل وثيق مع الاقتصاد السياسي للازمات والمواجهات المعاصرة (...) ان تجاوز السلطة من طرف السلط العمومية بدافع اقتصادي (من اجل المال) الى جانب انتشار الممارسات المشبوهة (الموازية) للناس العاديين من اجل العيش، في هذه الدول، يساهم في إطالة الأزمة"

بعد الثورة، ارتفع منسوب الفساد في تونس، لشعب انتفض أساسا على الفساد، واخترقت الممارسات المعيقة للنزاهة جميع المجالات التي لها علاقة بالمواطن من خدمات و صحة و تعليم فيما انتشرت ثقافة الانتهازية و الإثراء السريع في ظل مناخ سياسي فاسد من الرأس الى القاع.

في مراحل الانتقال الديمقراطي،شهدت دول افريقية عديدة مثل تونس محاولات لمكافحة الفساد مثل البنين و النيجر و السينغال. وضعت هذه الدول ترسانة من القوانين الزاجرة للفساد كما قامت ببعث هيئات لمكافحة الفساد، و شجعت صحافة الاستقصاء، تبين فيما بعد إنها مجرد حملات صورية مهمتها الأساسية تصفية الخصوم السياسيين تستعمل فيها الملفات لإقصاء المغضوب عليهم.وهو ما يفسر عدم تقدم تونس في مؤشرات مكافحة الفساد بحسب تقرير منظمة الشفافية الدولية.

في تقرير مثير حول فترة الرئيس السابق بن علي وصف عبد الفتاح عمر رئيس "اللجنــة الوطنيــة لتقصــي الحقائــق حــول الرشــوة والفســاد» الفساد" كمنظومة (...) تجــاوزت مجــرد الظواهــر والأفعــال المنعزلــة عــن بعضهــا البعــض"

عبد الفتاح عمر خلص إلى أن الفساد في تونس قبل الثورة تحول الى بالمنظومــة و هي «مجموعــة مــن العناصــر المترابطــة والمتفاعلــة فيمــا بينهــا بحيــث يكــون لتحــرك أي عنصــر منهــا تبعــات علــى بقيــة العناصــر».

غير بعيد عن مناخ فترة الرئيس السابق بن علي و ربما اكثر، يفكك عبد الفتاح عمر آليات تغلغل الفساد في تونس فيقول "تكونــت هــذه المنظومــة بصــورة تدريجيــة وتدعمــت شــيئا فشــيئا، فأحكمــت قبضتهــا علــى الدولــة والمجتمــع وتجســمت عناصرهــا، خاصــة، داخــل عــدد مــن المؤسســات السياســية والإداريــة والقضائيــة للدولــة وكذلــك فــي عــدد مــن الجماعــات العمومية والمؤسســات والمنشــآت العمومية. كما شــملت تنظيمــات سياســية (...) وأخــرى اجتماعيــة وعــدد مــن وســائل الإعــلام والاتصــال، فــأدت إلــى إرســاء ســلوكيات ومواقــف فــي المجتمــع أثــرت علــى العقليــة الجماعيــة".

و الغريب في الأمرين الحديث عن ظاهرة الفساد وانتشارها و ضرورة مقاومتها أصبح "الخبز اليومي" لمختلف الفاعليين الاجتماعيين أفرادا و مجموعات و مؤسسات عمومية و خاصة الى جانب مؤسسات المجتمع المدني و الإعلام، غير أن الحديث عن الظاهرة كفعل "إجرامي" بالمفهوم القانوني أو "حرام" بالمفهوم الأخلاقي أو كفعل خارق للنظم ومفكك للمجتمعات بالمفهوم السوسيولوجي و مقوض للتنمية الشاملة و المتكافئة من زاوية اقتصادية، و تعديا على النزاهة العامةla probité publique من وجهة نظر سياسية لم يساهم في الحد من تفشــي الظاهــرة فــي تونــس.

في المحصلة الكل يتحدث عن محاربة الفساد لكننا بقينا فاسدين، لأننا ما زلنا نؤمن بأن الأقربون أولى بالمعروف، وبأن المصلحة الذاتية الآنية تسبق مصلحة الدولة و المجتمع و الأجيال المقبلة.و لأننا أيضا مجتمع يدعي انه مسلم و ان قيم الإسلامية ترفض هذه الممارسات لكنهم لا يتوانون على الإقدام على المعاملات الفاسدة، كالرشوة، الكبيرة و الصغيرة و الزبونية و الابتزاز.

يبقى الفساد مسألة معقدة يمكن معالجتها من مقاربات عديدة، قيمية، أخلاقية، سياسية، اجتماعية، انثروبولوجية واقتصادية لكنها لا يمكن بأي حال من الأحوال أن توصم الدول العربية و افريقية و لا ان تختص بها شعوبها دون غيرها من شعوب العالم،فدول غربية عديدة عانت ما عانته تونس من انتشار للفساد و تدمير للمجتمع و نخر للاقتصاد لكنها تمكنت من الانتصار على هذه الآفة متى توفرت الإرادة السيادية الصادقة.