ا يمكن وصف طريقة تعاطي نظام الملالي الايراني مع المأزق الذي يعانيه حالياً سوى بأنه ابتزاز غير مجد، حيث اعلن وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف مؤخراً أن بلاده مستعدة للتراجع، جزئياً أو حتى كلياً، عن الإجراءات التي اتخذتها في سياق تخليها عن التزاماتها ضمن الاتفاق النووي، إذا ما قدم الأوروبيون في مقابل ذلك مكاسب اقتصادية "ملموسة"، وقال ظريف خلال مشاركته في مؤتمر ميونخ للأمن إنه بإمكان إيران القبول بشروط معينة للعودة إلى تطبيق الاتفاق النووي الموقع في 2015 والذي انسحبت منه إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب أحاديا في 2018.

حديث ظريف يعني أمور عدة أولها أنها تمثل اعترافاً غير مباشر بأن سياسة الضغوط الاقتصادية التي يمارسها الرئيس ترامب تحقق مفعولها وأنها تدفع الملالي دفعاً للقبول بأي ثمن اقتصادي يقدم لهم للتخلي عن العناد والمكابرة والقبول بالعودة لشروط الاتفاق النووي. وثاني هذه الأمور أن الملالي قد فشلوا في بناء استراتيجية فاعلة لتوظيف مسألة الانسحاب المرحلي من الاتفاق النووي من أجل انتزاع تنازلات أمريكية وأن الرهان قد بات يقتصر على الحصول على مقابل مادي من الجانب الأوروبي. وثالث هذه الأمور أن النظام الايراني قد تخلى تماماً عن فكرة التهديد بالانسحاب من الاتفاق النووي رداً على مقتل قاسم سليماني واعتمد سياسة براجماتية تعلي مصلحة النظام وبقائه على ماعداها من مزايدات سياسية.

عندما يقول ظريف أن الملالي على استعداد للتخلي جزئياً أو كلياً عن الخطوات التي قام بها، فإنه يتحدث عن استسلام تام وقلق فعلي من تأثير استمرار العقوبات الأمريكية، ويجب ان نقرأ جيداً كلامه خلال المؤتمر "قلنا إننا مستعدون لإبطاء تلك الإجراءات أو عكس مسارها بشكل يتناسب مع ما ستقوم به أوروبا"، وأضاف "سنقر إذا ما كانت ستقوم به أوروبا كافياً لكي نخفض أو نلغي بعض القرارات – لم نستثن القيام بخطوات إلى الوراء في ما يتعلق ببعض الإجراءات التي اتخذناها".

الواقع أن الملالي قد اقدموا حتى الآن على خمسة مراحل من برنامج خفض الالتزامات المنصوص عليها في الاتفاق النووي، والآن وقد أدركوا أن ما تم الاقدام عليه لم يفلح في انتزاع تنازلات من الطرف الآخر، فقد لجأوواً لعرض التنازل العكسي مقابل عوائد مادية!

وليس هناك شك أن النظام الايراني بات يعيش مأزقاً حقيقياً على المستوى الاستراتيجي، فسياسة تحدي العقوبات الأمريكية قد اثبتت فشلها وعدم جدواها، ثم جاء مقتل الجنرال قاسم سليماني ليثبت ضعف قدرة النظام الايراني على تحدي القوة العسكرية الامريكية وكذب الادعاءات التي روج لها بالانتقام وغير ذلك، لأن كل التقارير تؤكد أن قصف قاعدتين عسكريتين كانت تتمركز بهما القوات الأمريكية قد جاء في غطار رد محسوب لحفظ ماء الوجه وبضوء أخضر أمريكي وفي إطار من التنسيق وإبلاغ مسبق للجيش الامريكي عن طريق طرف ثالث.

واللافت أنه في خضم هذا المأزق والمعاناة التي يواجهها الملالي، نجد المتحدث باسم الحرس الثوري الإيراني يواصل الخداع والاكاذيب مدعياً أن قتل سليماني سيؤدي إلى تحرير القدس، والادهي من ذلك أن الجنرال حسين سلامي قائد الحرس قال في كلمة نقلها التلفزيون الايراني الرسمي في ذكرى مرور 40 يوما على مقتل سليماني إن إيران ستضرب إسرائيل والولايات المتحدة إذا ارتكبتا أقل خطأ!!

والحقيقة أن ملالي إيران الذين احتفلوا مؤخراً بالذكرى ألـ 41 لثورة الخميني يجب أن يعيدواً فهم مايدور من حولهم بشكل جيد، فالشعارات التي رفعها مؤيدو النظام احتفالاً بهذه الذكرى يغيب عنها تماماً الاحساس بمعاناة عشرات الملايين من أبناء الشعب الايراني جراء سياسات النظام، وتكفي الاشارة في ذلك إلى تقارير رسمية صادرة عن البنك المركزي الايراني، يشير فيها إلى ارتفاع حاد في حجم المعروض النقدي من العملة المحلية وارتفاع قياسي في الاقتراض الحكومي من البنوك، حيث ارتفع حجم السيولة المالية إلى 20262 تريليون ريال (مايعادل 174 مليار دولار) بزيادة 28% و 56% مقارنة بعامي 2018 و2017 على التوالي، وارتفاع السيولة من أهم عوامل ارتفاع التضخم الذي بلغ نحو 40% بحسب البيانات الرسمية الايرانية!

ويشير تقرير البنك المركزي الايراني أيضاً إلى ارتفاع الدين الحكومي للبنوك بنسبة 28% خلال عام 2019 فقط، ونمو هذا الدين بمعدل ثلاثة أضعاف منذ عام 2013 حتى الآن، وهناك خفايا لا يعرفها أحد نظراً لأن التقارير الرسمية لا تشير إلى ارقام ميزانية عام 2019، كما تخفي حجم العجز الحاصل في الميزانية ولا تعلن ارقاماً عن إجمالي صادرات البلاد لاخفاء مدى تراجع مستوى الصادرات النفطية بفعل العقوبات الأمريكية!

التقارير الدولية المحايدة من جانبها ترسم صورة قاتمة لمستقبل الاقتصاد الايراني في حال استمرت سياسة النظام على نهجها الحالي، حيث يشير تقرير معهد التمويل الدولي IIF الصادر في منتصف يناير الماضي إلى انخفاض حجم الاحتياطات الايرانية من العملة الاجنبية إلى 73 مليار دولار بحلول مارس 2020، وأن استمرار العقوبات يعني انخفاض هذه الاحتياطات إلى 20 مليار دولار فقط بحلول عام 2024.

هذه الارقام والمؤشرات تعني مزيد من التضييق والمعاناة وانهيار الخدمات ومستوى معيشة الشعب الايراني، وهي أثمان تدفعها الملايين مقابل الاوهام التي تسكن خيالات قادة النظام ورغبتهم في التوسع والتوغل خارج الحدود وتجاهل مطالب شعبهم وحقه المشروع في حياة كريمة يستحقها.

والخلاصة أن استجداء المساعدات من الاوربيين لن ينقذ النظام الايراني من مأزقه ولن يسهم في حل معضلته، فالحل الحقيقي يكمن في اعادة النظر في السياسة الخرقاء التي يعتمدها والنهج الذي يسير عليه، وتصحيح المسار وتبني سياسة عقلانية قائمة على إعلاء مصالح الشعب الايراني وتطبيق مبدأ حسن الجوار واحترام سيادة الدول تطبيقاً حقيقياً يتجاوز الشعارات والمزايدات، ثم الوفاء بحقوق ايران والتزاماتها في إطار الشرعية الدولية ليعود هذا البلد عضواً طبيعياً فاعلاً في الأسرة الدولية.