طرح عالم الاقتصاد والحقوق والاجتماع السياسي السويدي "غونار ميردل" في سنة 1970م، نظرية "الدولة الرخوة"، وبحسب هذه النظرية يرى "ميردل" أن كثيرا من بلاد العالم الثالث يعاني من خضوعه لما أسماه بالدولة الرخوة، وان هذه الدول الرخوة تكاد تكون هي سر البلاء العظيم، وسببا أساسيا من أسباب استمرار الفقر والتخلف. ويقصد "ميردل" بالدولة الرخوة: "الدولة التي تصدر القوانين ولا تطبقها، ليس فقط لما فيها من ثغرات، ولكن لأن لا أحد يحترم القانون، الكبار لا يبالون به، لأن لديهم من المال والسلطة ما يحميهم منه، والصغار يتلقون الرشاوي لغض البصر عنه". أما الفقراء الذين لا مال لهم ولا رشاوي فيتم ضبطهم بواسطة أساليب جديدة/قديمة من القمع والتهم".

رخاوة الدولة تشجع على الفساد، وانتشار الفساد بكل انواعه يزيدها رخاوة. والفساد يبدأ من السلطة التنفيذية ثم ينتقل إلى التشريعية والقضائية، حتى يصل إلى القضاء، ثم يتغلغل في كل مفاصل الدولة. صحيح أن الفساد بكل انواعه موجودا بدرجة أو أخرى في اغلب دول العالم وخاصة دول العالم الثالث، ولكنه في ظل "الدولة الرخوة" يصبح "نمط حياة". ويقدم "ميردل" وصفا للطبقة الحاكمة التي تتكون في هذه الدولة، فهي تجمع من أسباب القوة ما تستطيع بها فرض إرادتها على سائر فئات المجتمع، وهي وإن كانت تصدر قوانين وتشريعات تبدو وكأنها ديمقراطية في ظاهرها، فإن لهذه الطبقة من القوة ما يجعلها مطلقة التصرف في تطبيق ما في صالحها وتجاهل ما يضر بها، وأفراد هذه الطبقة لا يشعرون بالولاء لوطنهم بقدر ما يدينون بالولاء لعائلاتهم أو أقاربهم، أو عشائرهم ومحاسبيهم.

أولى مظاهر "الدولة الرخوة" في غالبية بلدان العالم الثالث هو انمفهوم "الدولة" ما يزال ملتبسا لأسباب بنيوية، منها أن السلطات التي حكمت منذ الاستقلال قد حولت هذه الدول الفتية إلى أجهزة في خدمة مصالحها، فعطلت ادوارها وادوار مؤسساتها،ومنعتها من أن تتطور كدول ديمقراطية حديثة بالمعنى البرجوازي للكلمة وبالمعنى التقدمي للتطور بشكل عام. كما يعود إلى أنه قد تكون بفعل هذه الممارسات لدور الدولة من قبل السلطات المتعاقبة نوع من الدمج في وعي الناس بين الدولة الناشئة ومؤسساتها الهشة التي بنتها سلطات الاستقلال في ظل التخلف والتبعية، وبين هذه السلطات بكل ما تتصف به من عجز وتخلف رغم التفاوت فيما بينها في الرغبة في التغيير وفي القدرة على تحقيقه عند توفر الرغبة. إن وضع "الدولة الرخوة" هذا لهو ماثل أمامنا اليوم في غالبية الدول الإفريقية والآسيوية (التي من ضمنها الدول العربية) وفي أمريكا الجنوبية.

هذا الوضع يؤدي الى التفكك الاجتماعي و يضرب المجتمع في الصميم في علاقات أفراده فيما بينهم، فيعرقل الإبداع ودورة الإنتاج مما يربك حركة التطور، ويعطل دور العقل و يدمر البنى ويحرق كل منجزات الدولة النامية، حتى أن الاستقلال يصبح مهددا بالتدخل الأجنبي تحت عناوين مختلفة ومتعددة. فتعم الفوضى، وتنهب خيرات هذه البلدان من قبل الفاسدين واللصوص والعصابات من داخل البلدان وخارجها. وتصبح هذهالدول هشة أكثر فأكثر، ضعيفة البنيان تهزها الأحداث كلها كبيرها وصغيرها حتى الأعماق، فتصبح قاب قوسين أو أدنى من التصدع و تتهدد وحدة أراضيها ووحدة شعوبها فيضيع المصير والمستقبل.

تلجأ السلطات السياسية في "الدولة الرخوة" في ظل عجزها عن القيام بأدوارها التي انتخبت من أجلها، على الرغم من أن أسلوب الانتخابات غير معترف به من طرف فئات واسعة من أفراد المجتمع، نظرا لما يطاله من تزوير، إلى استعرض عضلاتها القمعية واستخدامها، خصوصا أمام تزايد مطالب الشعب وغياب الاستجابة من قبل السلطات بشكل مطلق.

وأخيرا، يمكن القول بأن الشعوب الواعية بحقوقها وحرياتها،والمتشبعة بالفكر والثقافة، لا يمكن أن تنال منها الدولة الرخوة بأنواع أساليبها، فلم يعد الترهيب والتخويف والتعذيب يجدي نفعا، كما أن الإهانة وحشد مؤيدين مدفوعي الأجر كثر لصالح "الدولة الرخوة" لم يوقف احتجاجات المواطنين الأحرار (رجال ونساء) عن مطالباتهم بمحاربة الفساد والمفسدين وإقرار العدالة الاجتماعية والكرامة، بل سيظلون وسيستمرون وسيزداد عددهم حتى تحقيق مطالبهم، وما على "الدولة الرخوة" إلا أن تستجيب وتتخلى عن أساليبها القمعية المكشوفة.