بعد هزيمة مشروعه التوسعي في ليبيا، جاءت مدينة إدلب السورية لتشهد نهاية مشروع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للتوسع في سوريا، والتوصل إلى صيغة تقاسم مصالح مع إيران وروسيا في هذا البلد العربي.
لاشك أن الدفع بنحو 15 ألف جندي تركي في إدلب لمساندة تنظيمات وفصائل ارهابية تقاتل الجيش السوري، قد كشف الوجه والهدف الحقيقي للرئيس أردوغان، الذي اشتاط غضباً من استعادة السوريين نحو 600 كم مربع من أراضيهم حول إدلب، فكانت النتيجة قرارات متهورة تسببت في مقتل جنود وإصابة عشرات الجنود الاتراك على الأراضي السورية.
الغريب أن أردوغان قد غامر بقواته متجاهلاً ردة الفعل الروسية المتوقعة في مساندة قوات الجيش السوري، فأي متابع للأوضاع يدرك أن الرئيس بوتين لن يتخلى عن حليفه الأسد لمصلحة تركيا التي تقلبت في مواقفها في السنوات والأشهر الأخيرة أكثر مما يتقلب الثعلب في جوف الصحراء، ومن ثم فقد صدر إنذار روسي مهين للقوات التركية بوقف الهجمات "فوراً" في إدلب، وجاء الانصياع والرضوخ التركي خشية التعرض لقصف جوي روسي يقضي على البقية الباقية من ماء وجه "السلطان"!
قراءة المشهد التركي الداخلي توحي هي الأخرى بأن معدلات الثقة في قيادة الرئيس أردوغان بات في الحضيض ليس على مستوى معارضيه فقط، بل شملت أيضاً حلفاء الأمس في حزب العدالة والتنمية، حيث كان لافتاً صدور تصريحات للرئيس السابق عبد الله غول، أحد أهم مؤسسي الحزب الحاكم، وجه فيها انتقادات حادة للرئيس التركي، مبدياً استيائه من تدهور علاقات بلاده مع جوارها العربي، ومشيراً إلى انهيار الاسلام السياسي الذي لا يزال أردوغان يراهن عليه لأسباب أيديولوجية لا علاقة لها بمصالح شعبه وبلاده. وكانت تحذيرات غول من خوض حرب شاملة في سوريا أكثر الدلائل على انعدام الثقة في أردوغان وقراراته المقبلة، فالنخبة السياسية التركية تخشى التورط في صراع عسكري مع روسيا على الأراضي السورية، ما يفاقم أزمة تركيا ومعاناتها في حال تصاعد أعداد اللاجئين وسقوط الجيش التركي في مستنقع عسكري يضعف قدراته على التصدي للتحركات الكردية لاقامة دولة مستقلة، والتي تمثل الهاجس الأكبر لدى الساسة الأتراك.
الرئيس أردوغان يزعم الدفاع عن سكان إدلب وحمايتهم رغم أنه يدعم التنظيمات المتطرفة التي تتمركز في أجزاء من المدينة، والحقيقة أن لديه أطماع تاريخية تركية في سوريا، ولكنه يغامر بتعريض تركيا لمزيد من الاهانات المستمرة منذ حادث الباخرة "مرمرة" عام 2010، حتى أن مايعرف بالعثمانية الجديدة قد تحولت إلى مقبرة لأردوغان نفسه، بعد أن حاصر نفسه بحلم واوهام فشل في تحقيقها، بعد سقوط رهاناته على تنظيمات الاسلام السياسي التي لفظتها الشعوب العربية، وكان يريد أن يتخذ منها حطاب طراودة لاستعادة الحلم والمجد التركي القديم، حيث تصور أن تركيا "دولة عالمية" قادرة على إعادة هندسة وتشيل الشرق الأوسط وفق تصورها الذاتي، ومصالحها القومية، مستغلاً حالة الفوضى والاضطرابات التي شغلت مراكز الثقل العربي منذ عام 2011، حتى اكتشف "أحفاد السلاجقة"، كما قال أردغان ذاته عن نفسه، زيف الاحلام وسقوط الاوهام، وأن البحث عن مصالح الغاز وغيرها لا يجب أن يتحقق على جثث الشعوب.
الواقع أن الرئيس أردوغان قد فقد تماماً بوصلة المصالح التركية تماماً تحت تأثير فقدان الحلفاء الواحد تلو الآخر، حتى باتت بلاده محاصرة بالأعداء والخصوم اقليمياً ودولياً، فلم يجد سوى العودة للرهان على الدعم الأمريكي الذي سبق أن تحداه منذ أشهر، حين لجأ للتحالف مع روسيا وعقد صفقة شراء صواريخ "غس 400"، مضحياً بعضوية تركيا في حلف الأطلسي وواضعاً تحالفات بلاده الاستراتيجية في مهب الريح! ولم يعد بوسع أردوغان سوى الاستسلام لهزيمة مشروعه في سوريا انطلاقاً من إدلب، التي خاض فيها صراعاً غير مبرر داعماً لتنظيمات الارهاب في مواجهة قوات الجيش السوري الذي يسعى لاستعادة السيطرة على أراضي البلاد.
الغريب أن أردوغان لا يدرك عواقب مايفعل، ولا ينظر إلى خطورة استهداف الجيش السوري بشكل مباشر، ولكن سياساته الطائشة تسهم في توحيد السوريين مجدداً على قلب رجل واحد، بل سينتج عنها إحياء المطالب السورية الشمروعة بعودة لواء اسكندرونة التي سلبته تركيا قبل نحو ثمانين عاماً، والأرجح أن نهايته سترسم في أزمة إدلب التي ستستدل الستار فعلياً على مستقبله السياسي.