يتألق الشاعر ويبدع أيما إبداع في حالتين لاثالث لهما؛ الاول عندما يتقمصه الالهام تلقائيا وفي عفوية کاملة أما الثانية فهو عندما يکتب بروحه وبخلجات ذاته بعيدا عن کل مفردات العقل والمنطق والواقع حتى يمکن أن تخاله مبحر في الکون کله من دون أي حدود، عندئذ نجد ماتجود به قريحة الشاعر تجد أبوابالقلوب وبصورة قهرية أو طوعية مفتوحة أمامها على مصراعيها، ولست متشائما ولا أحب المتشائمين لکنني نادرا ماأجد قصيدة لشاعر من في هذا الزمن الغريب تشدني إليها وتأخذني بعيدا والانکى من ذلك إنني أجد نضوبا فريدا من نوعه في تلك القصائد التي تطل علينا وکأن الشاعر جاء بها من عوالم يستحيل السفر إليها.

في العقد السابع من الالفية المنصرمة وعندما شاهدت مسرحية"رحلة في الاطباق الطائرة" لفرقة المسرح الفن الحديث والتي مثلها کل من المبدعين سامي عبدالحميد وقاسم محمد والتي إستمر عرضها لعام على ماأتذکر، خرجت منبهرا بذلك الابداع الذي رأيته في هذه المسرحية ولاسيما الاداء الذي أسمح لنفسه بتسميته بالاسطوري للعملاقين سامي عبدالحميد وقاسم محمد، حيث جسد کل واحد منهما أکثر من 10 شخصيات بصور مختلفة سواءا في الحرکات والايماءات أم الصوت، يومها تصورت وکأنني أمام قصيدة شعر في صورة مسرحية، لأن ذلك الابداع والتألق الفريد من نوعه قد سلب کل مشاعري وجعلني لاأتمکن من نسيان هذا العمل الابداعي رغم مضي أکثر من 4 عقود عليه وأتذکر جيدا بأنني يومها ومن شدة إعجابي بالمسرحية، أخبرت زميلي الاديب والناقد الکردي الراحل أوميد ئاشنا بأنني شاهدت قصيدة وليست مسرحية!

لاأدري لماذا ولکنني ومنذ عشقي للشعر باق کأسير للقصيدة التي هناك من قصة ورائها، وبقدر ماکان عشقي للشعر العربي المکتوب باللغة العربية الفصحى فقد عشقت أيضا الشعر المکتوب بالقصائد المکتوبة باللهجة العراقية الدارجة ولاسيما لنخبة من الشعراء العراقيين ذوي الخلفيات اليسارية، وقد کانت صدفة غريبة أن تکون قصيدة "الاطلال" لإبراهيم ناجي والتي غنتها أم کلثوم وقصيدة "ياحريمة" لناظم السماوي والتي غناها حسين نعمة، هما أکثر قصيدتين أثارتا إهتمامي وشجوني وبقيتا ولازالتا محطتان لاأستطيع مغادرتهما وکأن الزمن توقف عندهماولاسيما وإن الاقدار تلعب في کلاهما دورا مأساويا.

إبراهيم ناجي، أحب بنت الجيران وهو أبن 16 عاما، وسافر وهو مولع بهذا الحب ليدرس الطب في خارج مصر، وعند عودته بعد 15 عاما، حيث کان لايزال أسير هذا الحب وبقى محفورا في قلبه وذاکرته، وفي يوما ما وبعد منتصف الليل التقى رجل أربعيني يستغيث به لينقذ زوجته التي كانت في حالة ولادة عسيرة، في بيت الرجل كانت الزوجة مُغطاة الوجه وكانت في حالة خطرة جداوهو يحاول ان ينقذها، فجأة بدأت انفاسها تقل وتغيب عن الوعيعندها «ناجي» طلب منهم يكشفوا وجهها حتى تتنفس وكانت الصدمة...هي حب عمره التي لم ينساها يوما.

إبراهيم ناجي، على الرغم من إنه أمضى سنين طويلة بعد هذا الحب إلا أنه كان مرهف المشاعر فأجهش بالبكاء وهو ينتظر العملية، وسط ذهول المتواجدين ولا احد يفهم مايحدث، بعد قليل رزقت بمولودها وبقت بخير ومشى ناجي من عند الرجل ورجع لبيته قبل مطلع الفجر وعلى باب بيته جلس وكتب "الأطلال". ولاريب فإن قصيدة الاطلال التي لحنها الموسيقار رياض السنباطي هي واحدة من أروع وأبدع أغاني أم کلثوم شعرا ولحنا وغناءا وستبقى خالدة لکونها سفرا رقيقا بقلب کسير ومصدوم وبمرکب مشاعر من دون شراع ولامجاذيف في عمق ماض ذهب ومضى ولکنه باق کالنصل المغروز في سويداء القلب!

قصة قصيدة"ياحريمة"، لناظم السماوي، بدأت عندما کان مسجوناً في سجن "نقرة السلمان" بسبب من إنتمائه للحزب الشيوعي العراقي، وکان هناك في السجن صديق له تزوره بين الفترة والاخرى أخته، ومن نظرات متبادلة نشأت قصة حب بينهما تصارحا بها وقطع لها وعداً بأن يتزوجها حال خروجه من السجن ووعدته هي بإنتظاره، ولکن إنقطعت زياراتها بعد فترة ولأنه لم يکن من السهل عليه أن يسأل أخاها عن سبب إنقطاع زياراتها لکنه مع ذلك وبعد صراع محتدم في أغواره بادر للسٶال عن عدم زيارتها له، فجاءته الاجابة الصادمة بأنها تزوجت! وهذا ماکان دافعاً لکي يبادر السماوي بکتابة قصيدته "ياحريمة"، والتي يقول في بدايتها:" ياحريمة انباگن الچلمات من فوگ الشفايف

ياحريمة اسنينچ العشرين ما مرهه العشگ والعشگ خايف

ياحريمة

لکن القصة لا تنتهي هنا بل إن السماوي، وکما جاء في مقالة للکاتب محمد يوسف علي:" وبعد خمسة عقود وهو يعبر جسر الاحرار استوقفته امرأة، متوجهاً لمبنى الاذاعة والتلفزيون، لم يعرفها ولكنها تعرفت عليه وبين شكه واليقين سألها (من تكونين؟) فاجابته أنا صاحبة اغنية ياحريمة -- فبكى وبكت -- ثم مضى كل منهما الى وجهته بعد ان تركا لقاءهما التالي في صدفة ما ربما تكون أيضا بعد خمسة عقود."