هل هناك رؤية صينية للعالم؟
نعم، يجيب المؤرخ الكبير يويينغ –شيه المتخصص في التاريخ الصيني القديم. وهو يقول بإنه ليس باستطاعته أن يتحدث عن "حكمة صينية"، إلاّ أن الصينيين يميلون إلى الفكر التركيبي والكلي، مفضّلين إيّاه على الفكر الفرداني والتحليلي. واعتمادا على ذلك، يرى الصينيون أن الأشياء مرتبطة ببعضها ارتباطا وثيقا، وأن الجزء ليس منفصلا عن الكل، وأن الطبيعة ليست منعزلة عن الانسان. وهناك كلمة صينية (تيار نهاي) تعني وحدة السماء والانسان. وكلمة (تيان) التي تعني السماء، معان متعددة في الحقبة الكلاسيكية، وجميع هذه المعاني متصلة بالطبيعة. لكنها تشمل أيضا المجال الديني. أما المعنى العميق لكلمة (تيان هاي) فهو العيش في انسجام مع الكون بأسره.
والحقيقة أن الصينيين لم يسعوا أبدا إلى الهيمنة على الطبيعة لكي تكون في خدمة الانسان، بل هم يدعون إلى احترامها وتقديرها. وهو في هذا الجانب يختلفون الذين كانت لهم عقليّة رياضية هيّأت لظهور العلوم في العصور الحديثة، وكانت مؤثرة في مسيرة مشاهير العلماء الغربيين أمثال غاليلي، ونيوتن، وكليبير، وغيرهم. أما الصينيون فلم يُسَخّرُوا الرياضيات للهيمنة على الطبيعة، واستعمالها لأغراضهم. وربما لهذا السبب لم ينتج الصينيون علوما طبيعية مثلما هو حال الغربيين. وعندما ظهرت العلوم الحديثة في الغرب، لم يُسَاير الصينيون تطوراتها، ولم ينبهروا بالاكتشافات الهائلة التي حققتها، مخيّرين أن تكون العلوم المعتمدة عملية لا نظرية.
ويضيف يويينغ-شيه قائلا أن الغرب يرى أن الفرد يتمتع بحقوق قد يكون الله منحه إيّاها. أما الصينيون فيقبلون بمفهوم الحقوق، لكنهم يتساءلون في الوقت ذاته عن الشيء الذي يجعها شرعيّة. وهم يعتقدون أن الانسان يتمتع بحقوق لأن له واجبات تجاه أقاربه، وتجاه مجتمعه، وتجاه العالم بحسب المكانة التي يحتلها، والدور الطي يلعبه. لذا يمكن القول إن الحقوق والواجبات وجهان لعملة واحدة. أما الأنا الفردية فليست معزولة عن المجموعة. ولا يفصل الصينيون الروح عن الجسد مثلما هو الحال في الفكر الديكارتي (نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي ديكارت). وحتى قبل ظهور كونفوشيوس، كان الصينيون يعتقدون أن هناك روحين :"الهون"، وهي الروح الإيجابية المتصلة بما هو ذهني، و"البو" وهي الروح السلبية المتصلة بالوظائف الجسدية. وفي لحظة الموت، تغادر الروحان الحسد شيئا فشيئا، ثم تذوبان نهائيا. وقد ظل هذا الاعتقاد سائدا حتى العصور الحديثة.
وفي أحد كتبه، يتحدث يويينغ-شيه عن الطرق المجهولة راهنا، والتي كانت الصين تعتمدها للحفاظ على الاستقرار، وعلى السلم الاجتماعي. وتقوم هذه الطرق على الاقناع الأخلاقي الذي غالبا ما يكون نافعا أكثر من القوة العارية. وهو يعتقد أن أكبر خطأ ارتكبه الشيوعيون الصينيون هو أنهم ظنوا أنه باستطاعتهم إدارة شؤون البلاد من دون النخبة المتعلمة. لذا كانت نتائج "الثورة الثقافية" التي أطلقها ماوتسي تونغ في الستينات من القرن الماضي، كارثية، كان ضحاياها يعدون بالملايين. وقد كانت النخبة المتعلمة في الصين تعتمد في فرض وجودها، على الحكم والعلم، وليس على الثروة والوجاهة الاجتماعية، وعلى الطبقة التي تنتمي إليها. وكان هدف هذه النخبة هو تحقيق ما يمكن أن يُمثل شيئا مثاليا بالنسبة للحياة الاجتماعية إذ أن واجبهم يحتم عليهم ذلك. فإن لم ينجزوا مهمتهم، يعاقبون .
لكن لماذا يعتقد الصينيون أ ن حضارتهم سرمدية؟
مجيبا عن هذا السؤال، يشير يويينغ-شيه بأنه لا يؤمن بمثل هذا الاعتقاد. وهو على رأي الفيلسوف اليوناني هيراقليطس الذي يرى أن كل شيء في حالة تغير دائم، وأن كل شيء ينهار وينتفي. وكان اوزوالد شبينغلر يرى أن الثقافة الغربية قد بدأ تشهد انحطاطا وتدهورا انطلاقا من القرن العشرين بعد أن عرفت تطورا هائلا في القرون السابقة. أما بالنسبة للصينيين، فإن التحول وقتي، وكل شيء له نهايته. لكن الجوهر باق، وبمعنى آخر هم لا يرون أن التحول وعدم التحول مفهومان متناقضان، بل أن كل واحد منهما يُكمل الآخر.