للحلَّاج عبارات إن فُهِمت على ظاهرها كانت كُفراً صريحاً، إلا أنه لم يكن يقصد ما يفهمه الناس ويفسرونه، تلك الكلمات التي تفوَّه بها كانت نتيجة الهيام بالله، نتيجة غيابه(غياب الحلَّاج) وحضور الله فقط، أي غاب الحلَّاج جسداً وروحاً وتجلَّى الله، ومن يلوموا الحلاج لم يذوقوا ما ذاق، لم يعرفوا ما عرف، لم يصلوا إلى المنزلة التي وصل إليها، تعلَّم لغةً ليس لها قاموس في متناول أيديهم فَصَعُب عليهم فهمه، هام عشقاً بخالقه، تدرَّج في تصوفه حتى أضحى لا يرى سوى الله، وهل هناك أصلاً موجود غير الله؟ هكذا آمن الحلاج، أطعم روحه وغذَّاها، أيقن أن الروح هي العماد والأساس، فترك الجسد حتى تلاشى ولم يعد هناك جسد!

لذلك عندما حان وقت إعدامه كان أسعد الناس! لأنه كان متهيئاً لهذا اليوم الذي تنفك فيه قيود الجسد فتتحرر الروح وتعود إلى مصدرها المُقدَّس.
فنلاحظ هنا أن التصوُّف يجعل من الموت طريقاً سريعاً للقاء المحبوب، فلا يهاب الموت صوفيٌ حقيقي، بل الموت عنده مصدر متعة ينتظره بشوق ليعانق من عاش ومات لأجله.

فيكون التصوف بهذا قد تميَّز بأنه الاتجاه أو الطريقة أو الفلسفة الوحيدة التي قد انتصرت على شبح الموت، فأوجدت وصنعت نفساً قوية لا تنظر للموت إلا نظرة حبٍ واشتياق. فالدين بنصوصه المقدسة حول حقيقة الموت يورث الخوف والخشية، ويأتي التصوف بطرقه وفلسفته فيُدعِّم الروح ويأخذها بعيداً فترى في الموت راحة لا شقاء ، متعة لا ألم، نعيم لا جحيم.

إن الحلاج في نظري هو أذكى المُتصوِّفة وأعمقهم وجداناً، لم يخشى أحداً فما كان منه إلا أن أصبح ينطق ويُصرِّح بكل ما يطرأ عليه مِمَّا قد ذاقه وأحسَّ به، وكأنه بذلك قد اقترب من منزلة النبوة إلا أن رحمة الله كانت تحيط به فلم يستطع الشيطان أن يقوده إلى الحد الذي يزعم فيه أنه نبي يوحَى إليه!

لقد استطاع الحلَّاج أن يتجاوز بتصوفه منزلة البشر بكسره للجسد وإضعافه، وارتقى بروحه فكان ملاكاً على هيئة بشر!

أدرك الحلَّاج أن الطقوس الدينية التي نمارسها بالجسد لن توصله إلى الله، فبدأ في محاربة هذا الجسد وأعطى الراية للروح لتقوده نحو المعشوق الوحيد. تعذَّب وعانى وتألَّم من أجل عشقه لله بطريقةٍ كان ظاهرها الكفر أو الجنون وباطنها وحقيقتها الإيمان والحكمة. كان يحاول أن يجعلهم يذوقوا ويتمتَّعوا بما قد ذاقه وتمتَّع به، لكنه نور الله لا يناله إلا من ارتضاه(نورٌ على نور يهدي الله لنوره من يشاء).