اعتدنا ـ كباحثين ـ اعداد تقديرات استراتيجية للأزمات الحاصلة في كثير من المجالات، متضمنة سيناريوهات مختلفة تراوح بين الأفضل والأسوأ، وتنتهي بسيناريو يعرف بـ "البجعة السوداءBlack Swan"، الذي ينطلق من نظرية تحمل الاسم ذاته، وترتبط بأسطورة قديمة تقوم على أن البجعات السوداء لا وجود لها، ومعناها الفعلي قائم على احتمالية ظهور متغيرات وتطورات غير متوقعة ومسارات مفاجئة للأحداث والأزمات، وهي نظرية انتشرت منذ صدور كتاب "البجعة السوداء" لعالم الاقتصاد الأمريكي من أصل لبناني نسيم طالب التي طورها في التسعينيات من القرن العشرين ونشرها في كتاب يحمل الاسم ذاته عام 2007، ويتحدث فيه عن إشكاليات التفكير البشري القائم على الاستغراق في التفاصيل على حساب الصورة الأشمل والأعم، وأن هذا التفكير بات نمطاً تقليدياً يضعف فرص التنبؤ بالمستقبل، لذا فهو يرى ان أحداثاً جساماً مثل الأزمات المالية و اعتداءات 11 سبتمبر 2001 كان يمكن توقعها لو كان هناك قراءة جيدة للماضي، وقد انتشرت هذه النظرية عالمياً في أعقاب الأزمة المالية عام 2008.

حديثي عن هذه النظرية هو مقدمة اراها ضرورية لتسليط الضوء على ما تتناوله الكثير من الدراسات والتقارير حول تداعيات تفشي فيروس "كورونا" في العالم، حيث أصيب الكثيرون في العالم بالهلع لمجرد قراءة الكثير من نتائج الدراسات المنشورة، فهناك تصريحات رسمية متشائمة للغاية هي بالتأكيد تقوم على تقديرات بحثية، ومنها تحذيرالمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل من أن 70% من سكان ألمانيا - نحو 58 مليون شخص - يمكن أن يصابوا بفيروس كورونا، بينما يرى خبراء ألمان أن السيناريو الأسوأ هو إصابة 40 ألف شخص بالفيروس. وفي الولايات المتحدة التي تشهد انتشاراً بطيئاً للفيروس، يرجح مارك ليبسيتش أستاذ علم الأوبئة في جامعة هارفارد، أن يصاب ما يصل إلى 70 في المئة من سكان العالم بالفيروس، متوقعاً أن يموت نحو 1 في المئة منهم جراء الإصابة، فيما نٌقل عن برايان موناهان، الطبيب المعالج بالكونغرس والمحكمة العليا الأمريكية، توقعه أن يصاب نحو 150 مليون شخص في الولايات المتحدة بفيروس كورونا، وأفادت شبكة "إن. بي.سي نيوز" بأن موناهان أدلى بهذه التصريحات خلال اجتماع مغلق في مجلس الشيوخ، أي في اجتماع رسمي على مستوى رفيع، وعلينا أن نلحظ أن مدير منظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، قد استخدم كلمة "جائحة" لوصف تفشي فيروس كورونا، والجائحة تعرف بأنها الوباء المنتشر على نطاق واسع ويهدد حياة البشر.

ثمة مؤشرات أخرى يضعها الباحثون في حساباتهم عند اعداد تقديراتهم وسيناريوهات الأزمة، منها المتغيرات المرتبطة بالموضوع، فعندما يصل الأمر إلى سابقة تاريخية مثل وقف الطيران بين الولايات المتحدة وأوروبا لمدة شهر وعندما تخصص الدول عشرات المليارات من الدولارات لمواجهة الأزمة، فضلاً عن انهيار البورصات العالمية وخسارة أسواق الأسهم العالمية أكثر من ستة تريليونات دورلار ناهيك عن أكثر من مائة مليار دولار حجم خسائر متوقعة لشركات الطيران بسبب شل حركة السفر، وتراجع أسعار النفط بسبب ضعف الطلب العالمي، تصبح السيناريوهات المتشائمة هي الأكثر ترجيحاً لأن القرارات السياسية هنا تقوم على معطيات وحقائق عدة منها تطورات الواقع المتسارعة.

تهاون الدول والأفراد حيال ارتفاع مستوى الخطر مرفوض إذن، ومن يشكك في أهمية التحذيرات عليه أن يقرأ قال كلام مدير المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية في الولايات المتحدة الذي أكد فيه إن مرض "كوفيد-19"، الذي يسببه فيروس كورونا المستجد، أكثر فتكا 10 مرات من الأنفلونزا الموسمية، أي أن انتشاره عالمياً قد يكون كارثياً بكل المعايير، فالتقديرات الاستراتيجية بشكل عام لا تقوم على حسابات عشوائية بل تنطلق من دراسة منحنى الأزمات، ومساراتها وتحليل المعطيات بدقة، وارتفاع حصيلة الوفيات جراء الاصابة بفيروس كورونا في ايطاليا على سبيل المثال يفوق بمراحل ما حدث في الصين، ورئيس الطوارئ في منظمة الصحة العالمية مايكل راين يقول أن منظمة الصحة العالمية أرسلت 40 ألف جهاز فحصٍ إلى إيران، ورغم ذلك كان لا يزال هناك نقص في أجهزة التنفس والأوكسجين، وأكد أن إيران وإيطاليا "تعانيان الآن"، والأخطر أنه قال "لكنني أؤكد أن دولاً أخرى سوف تكون في الحالة نفسها قريباً جداً"، ما يعني أن الخطر يتصاعد والتقديرات البحثية التي تسهم في صناعة القرار يجب أن تراعي ذلك، خصوصاً بعد وصول الفيروس لقيادات كبرى ووزراء ومسؤولين في دول مختلفة، حيث اصيب نائب الرئيس الايراني اسحاق جهانغيري ووزير الثقافة علي أصغر مونسان، ووزير الصناعة رضا رحماني.، فضلا عن عدد آخر من المسؤولين ونواب مجلس الشورى، كما أصيبت وزيرة بريطانية ووضع الرئيس البرتغالي نفسه قيد الحجر الصحي لشكوك في الاصابة بالفيروس.

أزمة تفشي فيروس كورونا لا تزال ـ بحسب تقديري ـ في بداياتهاـ ومن الصعب رسم سيناريوهات كاملة ودقيقة لها، وعلينا أن نراجع جيداً السيناريوهات كافة، بما فيها الأسوأ أو سيناريوهات "البجعة السوداء"، لأن في تجاهلها خطراً كبير في ظل تصاعد مستوى التهديد الصحي العالمي وعدم استقراره حتى الآن، فالمؤشرات كافة تؤكد أن الأمر خطير وأن العالم قد يستغرق وقتاً ليس قليلاً للتعافي من آثارها العميقة التي لم يظهر الكثير منها على السطح حتى الآن، خصوصاً في المجال الاقتصادي.