ظاهرة "الشعبوية في السياسة" ليست ظاهرة جديدة، فقد عرف القرن التاسع عشر موجات لهذه الظاهرة بخصائص سياسية وخطابية مشتركة كالنازية أو الفاشية، بل إن هذه الظاهرة لها امتداد أعمق في التاريخ، إذا تم النظر إليها أنها ليست أيديولوجية مغلقة، بقدر ما هي ظواهر أفرزتها الأزمات، وتتمتع بمواصفات سياسية وخطابية مشتركة.

قيام شخصيات عربية بإحتكار للسلطة منذ بداية الخمسينيات من القرن الماضي، والتحكم في الجماهير من خلال الخطاب الشعبوي، استطاع الحكام العرب منذ ذللك التاريخ بناء أنظمة سياسية سلطوية في بلدانهم، أبرز مظاهرها التبجيل والتهليل والتصفيق للزعيم وللقائد وللحاكم الذي يقدم خطابا شعبويا عاطفيا انفعاليا، لا يمت إلى الواقع بأي صلة، بل يحول الهزائم إلى انتصارات.

اجمع علماء السياسة على التفريق بين الفكر السياسي وبين الممارسة السياسية، وأكدوا على ان الكل قادر ان يمارس السياسة، لكن ليس للكل القدرة على الجمع بين الفكر والممارسة السياسيين. فالسياسي المتحصل على رؤية فكرية في السياسة تكون أفعاله وأقواله في السياسة تخضع لرؤية مدروسة، ولا تقع تحت طائلة الانفعالات الحزبية والفئوية والتي غالبا ما تكون سببا أساسيا في كل الويلات التي تُجر على أي عملية سياسية، سواء على مستوى الدولة او على مستوى الأحزاب والمؤسسات، فالفراغ السياسي في الفكر والممارسة، ينتج عنه فراغا في السياسة والحكم وخرابا للدولة بأكملها.

إن السياسة كما يؤكد المتخصصون في هذا الحقل المعقد، لا تعني استلام السلطة فقط، إنها نوع من الادارة العميقة والدقيقة والشاملة لشؤون الدولة والمجتمع. انها تشمل عموم المهام التي تتعلق بالدولة والشعب، وهذه المهام لا يمكن أن يتصدى لها الأشخاص غير العارفين ممن لم يهضموا الفنون السياسية ولم يطلعوا على علومها نظريا ثم تطبيقيا، وهذا ما يحدث الآن فعلا في ساحتنا السياسية العربية، حيث تُدار بلداننا من قبل أشخاص لا يمتلكون الفهم التام للسياسة ومتطلباتها.

الأحداث السياسية الكبيرة الراهنة في العالم العربي، جعلت المراقبين والمحللين السياسيين يركزون ويعكفون من جديد على رصد ظاهرة الشعبوية واستفحالها في الحياة السياسية في هذه البقعة من العالم. وبعد البحث المعمق والتقصي توصلوا الى النتيجة التي تؤكد أن شعبوية النخب السياسية في الممارسة السياسية هو "انتصار الصوت المرتفع على الخطاب الهادف"، وذلك لكون الخطاب الشعبوي يخاطب الطبقات الشعبية الفقيرة والمتوسطة، ويثير المشاعر والأحاسيس، ويدغدغ العواطف، ويبني أرائه على اللامسوؤلية. وفي المقابل يتقيد الخطاب السياسي الحقيقي بمخاطبة العقول والنفوس وتحمل المسؤولية الكاملة على كل ما يقال أثناء الخطاب السياسي.

الأمر العجيب والمثير للدهشة أن الجماعات الشعبوية عندما يتولون مقاليد السلطة على أنقاض النظام الذي كانوا يوجهون إليه سهام النقد والهجوم، لا يلبثون أن يتحولوا إلى ممارسة الأساليب نفسها التي طالما هاجموها، وممارسة السلطات نفسها التي طالما ندّدوا بها، وعملوا بالطبع إلى أن يحلو محلّها تحت شعارهم الأثير، وهو توخي المصالح العليا للوطن وجماهيره الغفيرة. تتلخص الشعبوية السياسية العربية في التصفيق والتمجيد والتبجيل لقائد لم يحقق أي من الإنجازات العسكرية او الاقتصادية او الاجتماعية، ولكنه يجمع الناس حوله بخطاب شعبوي قومي أو ديني، ويحول الهزائم إلى انتصارات وهمية. لذلك أصبحت اغلب النخب السياسية شعبوية وغارقة في الخطاب الشعبوي من قمة رأسها حتى أخمص قدميها.

أصبحت الشعبوية السياسية دستورا للأنظمة العربية السلطوية التي تعتمد على خلق عدو وهمي للتذرع به في قمع الشعوب وكبت حرياتها وسلب حقوقها. وفي تاريخ العرب الحديث وحتى يومنا هذا، مثلت الدكتاتوريات العربية هذا العدو بجهات عدة، وفي الحقيقة هذا الأمر غير موجود بل هو نوع من الوهم والخيال فقط، الهدف منه هو ترويض الجماهير العربية والتحكم فيها واستعبادها.

وفي الأخير، يجدر بنا أن ننوه الى اتخاذ التدابير اللازمة لمعالجة هذا الخلل الخطير المتجذر في الممارسات السياسية في مجتمعاتنا العربية، ونعني به محاربة الجهل في العمل السياسي، من خلال القيام بخطوات إجرائية ملزمة لكل من ينوي العمل في الحقل السياسي، وأهمها أن يكون متحصلا على مستوى علمي جيد، وملما بثقافة عامة ومعرفة سياسية جيدة، ويتحلى بالأمانة والأخلاق الإنسانية العالية، تجعل من قراراته ومشاركاته ومسؤولياته حصنا منيعا ضد التسبب بكوارث للدولة والشعب على حد سواء.