" حسرة على الذين لم يغنوا أبدا، سيموتون ومعهم الموسيقى" اوليفر ويندل هولمز

شدني عنوان هذا الكتاب وأربكني"مُتْ فارغاً، اطلق أقصى طاقاتك كل يوم" للكاتب "تود هنري" اصدار 2013 وخاصة في هذا العصر حيث العالم مصاب بالكراهية والخوف والوباء" فيروس كورونا". الكون يصارع الموت أمامنا في نشرات الأخبار الدولية شرقا وغرباً. أقلب الكتاب واكتشف أن محتواه ينصب على قيمة الوقت وأهمية العمل الخلاق لتحقيق الطموحات والأهداف التي نجد متعة في ممارستها ما دمنا على قيد الحياة. قدرات الفرد هائلة إن لم يتم توجيهها بشكل سليم قد تدمر الفرد وتقوده إلى الاكتئاب واليأس، الانكسار أو العدوانية فيذهب إلى خط النهاية وفي قلبه وعقله تلك المشاريع الثمينة والقصص الخلاقة والأفكار البارعة التي لم تأخذ نصيبها على أرض الواقع. فهل لديك غاية وهدف تعمل على تحقيقه ؟ ما هو مخططك والوقت اللازم لتحقيق طموحك؟ ماهي أغنيتكَ وكيف ستحرر أمنياتك وموسيقاك، أحزانك ومسراتك على خشبة هذه الأرض، أيها الإنسان؟!

الحياة رحبة والعالم لن ينتهي اليوم ولا بعد غد. أمامك بحث متواصل ولكن ضباب الحزن والفقد والحروب قد يثقل على عقلك وروحك ويزجك في عتمة القلق والكراهية، فتسقط في وحشتك وتكره الدنيا. فالشخص الذي يكره نفسه والعالم لن يغني. لن يعشق، ولن يقدم للبشرية شيئاً عدا السلبية والعداء. الكراهية كما الغضب مشاعر تولد العنف الموجه خارجيا، أو المرتد إلى الداخل. وأول ما يفعله هذا الشخص هو أنه يقتل رغباته ويعيش بالمعنى الفيزيقي فقط. وهذه ليست كافية للشعور بالامتلاء والتحقق الشخصي. ليس بالضرورة أن نقوم بأشياء عظيمة، ولكن من المفيد أن نعقد صلحا مع مصالحنا وأهميتها بالنسبة إلينا وللمجتمع والأسرة الكونية.

تأملات في واقع العمل والترجمان

في جلسة عمل للترجمة الفورية في مكتب معالج سيكولوجي، انفجرت امرأة أمامي بالبكاء وهي تقول: لا قيمة لحياتي بعد، لا هدف لدي. ولا أعرف كيف أتخفف من القلق العصبي. لا أعرف طريقي ولدي إشكالات مادية وصحية ونفسية. أحتاج الى تحقيق هدف يجعلني أكثر اتزانا. ثم توقفت وهي تمسح أنفها وعيونها. كان كحلها ينساب مع الدموع خطوطا على وجهها البائس. كانت امرأة في نهاية الخمسينات من عمرها، مهاجرة مستقرة في كندا، خرج الأولاد إلى حياتهم، رحل زوجها الذي كان عنيفا معها طوال العلاقة الزوجية. الرجل الذي أحبته فيما بعد، خدعها ومضى إلى امرأة أخرى. شهادتها الجامعية لم يعد لها قيمة عملية في البلد الجديد. الشتاء طويل وبارد، الحياة الاجتماعية باردة أكثر بكثير مما تعودت عليه في الشرق. أين الفرح؟! ... كيف ستجد هذه المرأة –مثلا- الطريق إلى الفرح من جديد.

كان هذا موضوع الحلقة في ذلك اليوم. وما يزيد وجعها أنها ليست قادرة على التعبير عن نفسها- بطلاقة- باللغة الانكليزية.

الضياع وسط المتاهات الكبيرة مؤلم لاشك. ومهما كان موقع الفرد(هو-هي) ومركزه الاجتماعي والعلمي وموقعه الجغرافي لا بد أن يسعى ان تحرير تلك الطاقة الكامنة التي تدل على حضوره الفردي وتجعله في آخر الطريق يشعر بالرضا عن ذاته أمام مرآة ذاته أو يشعر بالكراهية والغضب.

هذه المشاعر بسلبيتها وايجابيتها سيصبها الفرد نحو ذاته أو الآخرين ممن يعتقد أنهم سبب بوسه وفشله أو نجاحه. في هذا الكتاب الذي أمامي بحث عميق في كيف نعيش ونبدع كل يوم بكامل كفاءاتنا كي لا نموت في النهاية محملين بكنوز الأفكار والطموحات التي لم تتحقق. يقول الكاتب في المقدمة: أحد الأصدقاء سأله يوما سؤالا غريبا: ما هي أثمن بقعة على وجه الأرض؟ وكانت هناك اجابات متعددة، لكن الصديق قال: المقبرة أثمن مكان على الأرض، هناك حيث مناجم الأفكار والروايات والمشاريع والطموح الذي طمر ودفن مع موت صاحبه.

لم تكن ابار النفظ والذهب في الشرق والغرب. في ذلك اليوم يقول الكاتب إنه عاد الى البيت وكتب بخط عريض: "مت فارغا". ضع ما في عقلك وقلبك في إطار التحقيق كي تصل الى النهاية وقد تخففت من الرغبات والأحلام.

نقاط على طريق النجاح الفردي

اقتل الخوف في داخلك لأن الخوف قاتل شرس للإبداع. أحيانا كثيرة يكون داخل الرجل أو المرأة نبع من التصورات والأفكار الخلاقة على الصعيد الأسري والاجتماعي، لكن الخوف من الرقيب ومن أحكام الآخرين وتقييمهم، يحمل الفرد إلى العيش في كبت ومحدودية قاتلة، روتينية، قطيعية تعمق غربة الفرد بينه وبين أهل بيته ومجتمعه.

اعمل يوميا على التحرر من محاسبة الاخرين ثم وتقليدهم في الوصول إلى الهدف الذي يحقق لك متعة ودهشة. اذا صار لك أن تحرر نفسك ستجد طاقات تفاجؤك. حاول ألا تستسلم لوضعك القائم حتى وان كان صعباً أو مريحاً، لا شك أن الإقدام سيفتح لك أبوابا لم تكن تخطر ببالك.

كفرد في هذا العصر الذي يشهد حقبة عصيبة، أقصى ما تستطيعه هو أن تنحاز إلى ذاتك المبدعة في طينتها الأولى. فأنت قادر على صناعة نجاح فردي، ووضع خريطة الطريق للوصول إذا بقيت على قناعة وإيمان بأن بناء المجتمع يبدأ من الفرد. كتب باركر بالمر" الشيء الوحيد الذي سنأخذه للمجتمع هو أنفسنا. الطريقة التأملية الوحيدة للتعرف على ذاتنا هي العزلة التي ليست أنانية أبدأ. إنها أفضل هدية بامكاننا تقديمها للآخرين" .

العزلة الفردية القصيرة التي فيها محاكاة ذاتية وصادقة هي الطريق للوصول إلى الهدف الخاص. بغض النظر عن المعتقد والعقيدة والايمان وعدمه. هناك مساحات خلاقة تحت الحجر والقمع وخاضعة للتهميش، طوعاً وقسرا. فكلما أزحت خيطا رمادياً وصخرة عن بصيرتك رأيت النور الذي ينبع من داخلك وينعكس على الجدران المظلمة المحيطة.

قد تكون الكراهية سلوكاً شخصياً أو جمعياً. وقد تكون عماء يحيط بالفرد والسلطات العليا فتكون النتيجة خراباً مريعاً إن لم يستيقظ الفرد وينظر بصدق إلى ما تبقى في روحه من شغف.

قليل من العزلة وليس مائة عام كما أراد غابرييل غارسيا ماركيز لشعب روايته الخالدة لن تضر بالفرد اذا استيقظ في الوقت المناسب. الكثير من الاهتمام والتواصل مع الاخرين متعة سواء في زمن الكوليرا، أو الكورونا، وسيعيد الموت إلى قمقمه كي نتفرغ للعمل وإعادة بناء ما ترهل وتداعى من الجدران والنفوس والعلاقات.

كتب هنري ميلر"عمق شغفك بالحياة، كما تراها، وبالناس، والأشياء، الآداب والموسيقى. العالم غني جداً. تفاعل مع الأشياء القيمة، مع النفوس الطيبة، والناس الممتعين. انسَ نفسك"
---
جاكلين سلام-شاعرة وكاتبة ومترجمة سورية كندية.
لها خمس مجموعات شعرية، وعدد من المقالات المنشورة في الصحف والمجلات العربية منها: الجزيرة نت، السفير، المستقبل، الحياة، الشرق الأوسط