تاريخ البشرية هو تاريخ أوبئة وحروب ومجاعات، هذا هو قدر الإنسان منذ النشأة. شعوب تصمد وتبقى وسلالات تندثر ولا تبقى لها أثر سوى في كتب الباحثين ودراسات العلماء. وتلك سنة الحياة التي لا نجادل فيها.

تمكّن الإنسان من خلال هذه الرحلة الأوليسية الطويلة بين الحياة والموت من أدوات البقاء ومراكمة المعارف للسيطرة على مفاتيح الطبيعة أو هكذا خُيّل اليه لأنه كان في كل مرة يصنع بيديه أسباب فناءه عبر الاستغلال المُفرط واللامحدود للطبيعة. كانت مأساة الحروب الكونية و القنبلة النووية على هيروشيما و كارثة تشرنوبيل النووية كفيلة بأن يعيد المجتمع الحديث التفكير في نفسه و ذاته, اذ كيف للحداثة ان تكون سببا في خراب الكون؟

أمام إنشار فيروس كورونا لا شي في الحقيقة ميز ردة فعل الأفراد في المجتمعات الحداثية والتقليدية رغم ما يؤاخذ على التونسيين وغيرهم من الشعوب العربية ووصمهم بالأنانية والجهل وعدم الانضباط وحتى "التخلف" في أحيان كثيرة.

مثلهم مثل بقية شعوب العالم تجاهل التونسيون قرارات الحكومة وتوصياتها في العزلة والحجر الصحي واحتلوا المقاهي والفضاءات العامة مواصلين حياتهم بنسقها العادي رغم تحذيرات المختصين والخبراء وهنا يكمن الفرق، فالدول الغنية لها من الإمكانيات البشرية واللوجستية والعلمية، بما يمكنها من مجابهة الآفات والأوبئة عبر دعم الاقتصاد المتضرر وتكثيف البحوث العلمية ومساعدة المنكوبين، في حين تعري "كوروناتنا" هشاشة اقتصادنا وضعف مرافقنا العمومية من صحة وتعليم ومواصلات. لقد اكتشف التونسيون ان عدد اسرة الإنعاش مجتمعة في المستشفيات العمومية لا تتجاوز المائتين وأربعين سريرا أي بمعدل سرير واحد لكل خمسين الاف ساكن، وهو معدل بعيد جدا عن المعايير الدولة في مؤشرات الصحة.

سوف تمر أزمة الكورونة و ستكون لها طبعا تداعيات اقتصادية واجتماعية مضافة الى الأزمة الخانقة التي تمر بها البلاد منذ سنوات، الأهم الآن هو كيف نخرج بأخف الأضرار و نستخلص الدروس من أزمتنا التي لم تعد الحلول الترقيعية و المؤقتة تجدي معها نفعا. هناك من دعا الى ضرورة إعادة جدولة ديوننا الخارجية واستغلال الفرصة لطلب الدعم وغيرها من الحلول التي قد يكون وباء الكورونة سببا في التسريع بإنجازها باتفاق جميع الأطراف الاجتماعية لعل أهمها الإصلاحات الكبرى وبناء منوال تنموي جديد يعيد للدولة دورها الاجتماعي وللمرافق العامة الأساسية دورها الحيوي.

فيروس كورونا يذكرني بقصة السفينة والعاصفة، حيث يحكى أن" عاصفة شديدة هبت على سفينة فى عرض البحر فأغرقتها.. ونجا بعض الركاب.. منهم رجل أخذت الأمواج تتلاعب به حتى ألقت به على شاطئ جزيرة مجهولة ومهجورة. ما كاد الرجل يفيق من إغمائه ويلتقط أنفاسه، حتى سقط على ركبتيه وطلب من الله المعونة والمساعدة وسأله أن ينقذه من هذا الوضع الأليم. مرت عدة أيام كان الرجل يقتات خلالها من ثمار الشجر و ما يصطاده من أرانب، و يشرب من جدول مياه قريب و ينام فى كوخ صغير بناه من أعواد الشجر ليحتمي به من برد الليل و حر النهار. و ذات يوم، أخذ الرجل يتجول حول كوخه قليلا ريثما ينضج طعامه الموضوع على بعض أعواد الخشب المتقدة. ولكنه عندما عاد، فوجئ بأن النار التهمت كل ما حولها. فأخذ يصرخ: "لماذا يا رب؟ حتى الكوخ احترق، لم يعد يتبقى لي شيء في هذه الدنيا وأنا غريب في هذا المكان، والآن أيضاً يحترق الكوخ الذي أنام فيه.... لماذا يا رب كل هذه المصائب تأتي عليَّ؟!!" ونام الرجل من الحزن وهو جائع، و لكن في الصباح كانت هناك مفاجأة فى انتظاره.. إذ وجد سفينة تقترب من الجزيرة و تنزل منها قارباً صغيراً لإنقاذه. فعندما صعد الرجل على سطح السفينة أخذ يسألهم كيف وجدوا مكانه فأجابوه: "لقد رأينا دخاناً، فعرفنا إن شخصاً ما يطلب الإنقاذ"!!!

هذه قصة مقولة"رب ضارة نافعة"، ربما تنفعنا "الكورونا" في ما أفسده الساسة.