لا خلاف على ضخامة التأثيرات الإقتصادية، والحياتية، وحتى الإجتماعية، والسياسية التي سيتركها وباء كورونا المستجد على الدول والشعوب والنظام العالمي السائد أيضاً في المستقبل القريب، ومع ذلك فإن الجدل الدائر بين الكتاب وفي الأوساط الفكرية حول احتمالية غروب شمس العولمة، أو أفول نجم الهيمنة الأمريكية الغربية وسطوعه من الشرق من جديد، أو سقوط حكومات لا تحضى بقبول شعبي، حديث لايزال سابق لأوانه وبعيد التوقع ومن المؤكد أنه لن يرى النور في القريب العاجل.

فالأشهر الثلاثة الماضية كانت كفيلة بأن تكشف للجميع ملامح العالم الذي سنشهده والحياة التي سنعيشها في حال ظلّ كوفيد - 19 يجثو على صدر الإنسانية فترة أطول دون إيجاد علاج يوقف إنتشاره السريع المرعب أو لقاح يؤمن البشرية من خطره المحدق، إذ طالت مظاهر الشلل شبه التام أكثر من 200 دولة وأُغلقت كبرى العواصم والآلاف من المدن المتوسطة والصغيرة وخضع حوالي ثلاثة مليارات من سكان الكرة الأرضية للحجر الصحي، وتوقفت الأنشطة والفعاليات الإجتماعية والثقافية والفنية والرياضية وعلّقت الشركات والمصانع المتنوعة أعمالها جزئياً أو بشكل كامل، وأنشغلت الأنظمة والحكومات على اختلاف توجهاتها وأفكارها وأنماطها بأمور إدارة أزمات دولها الصحية ورفعت يدها إلى أبعد حد عن التدخل والمساهمة في الشؤون الإقليمية والعالمية المحيطة بها، كذلك أُغلقت الحدود البرية والجوية بين معظم الدول وشلّ السفر والتنقل فيما بينها، كما تراجعت أسواق المال والبورصات العالمية إلى أدنى مستوياتها منذرة بحدوث ركود إقتصادي شامل قلَّ نظيره.

ورافق كل ذلك تكهنات بظهور بوادر نظام عالمي جديد مغاير تماماً للنظام العولمي الرأسمالي الحالي المتحكم في دفة الأمور على كوكبنا استند أصحابها على تفسير أن الأزمات العالمية الكبرى كثيراً ما تؤدي إلى ظهور نظم جديدة أو إعادة صياغة النظام العالمي القائم وأن الذي يحدث الآن ماهو إلا بداية لهذا التغيير المرتقب ساعد كورونا في تسريع وتيرته – على حدّ قولهم – وأنه لن يبقى العالم بعد الفيروس كما كان قبل ظهوره، وقد نجد من يغالي في تصوراته وترجيحاته في أن المجتمع الإنساني بات على مشارف العودة إلى عقود إلى الوراء وسط الجمود والتراجع الذي تسجله شتى المجالات.

رغم كل الآثار الكارثية التي قد تتركها جائحة كورونا على البشرية جمعاء، إلا الوقائع والحقائق تؤكد أن إمكانية ارتقائها إلى حدّ قلب موازين القوة العالمية أو الإتيان بنظم مختلفة أمر خارج التصور، فتخطي كل ما نجم أو ينجم عن هذه الأزمة على المدى القريب سيظلّ من أكثر الاحتمالات الواردة مهما كان حجم مخلفاتها من حصد الأرواح (أكثر من 22 ألف) وازدياد في أعداد المصابين (أكثر من 400 ألف) وكثرة وتنوع القطاعات المتضررة، ذلك لأن النمو الإقتصادي العالمي قبل ظهور الوباء كان في طور الإرتفاع والناتج العالمي في تزايد والشركات المتعددة الجنسيات كانت تتحكم بقوة في التجارة والإقتصاد العالميين وتسيطر كلياً على توجيههما، ولم يغير مجيء الفيروس شيئاً من هذا وإن أبطأ من الإيقاع المعتاد وتسبب في توقف مؤقت.

ولا يختلف مشهد ما بعد الأزمة عمّا قبلها في شيء نظراً لتحكم الدول والحكومات في الأمور، بل لا نغلو إذا قلنا أن الوباء رغم تسببه بأضرار لا تحصى على كافة الأصعدة، إلا أنه عزز بشكل ملحوظ موقف السلطة في الدول التي أصابها بما فيها دول كانت تعاني أصلا من تراجع هيبة السلطة وتشهد مظاهرات واحتجاجات رافضة لنظم الحكم فيها، فقد أتاحت لها الأزمة العالمية فرصة إضافية لإحكام السيطرة على مجريات الأمور سيّما وقد أصبحت الآن تتمتع بنوع من التفويض تبرره مخاوف إنتشار الفيروس، فبدأت بفرض قرارت وإجراءات وجد المواطنون أنفسهم مجبرين على الإلتزام بها رغم نقمتهم على تلك السلطات.

واللافت أنه مع إنعدام رؤية مستقبلية واضحة فيما يخص فترة إنحسار الخطر وعودة الحياة إلى طبيعتها، إلا أن فترة الإجراءات المعلنة في معظم الدول لا تتجاوز أسبوعين أو ثلاثة أسابيع في أبعد تقدير الأمر الذين يرجح فكرة أن تلك الحكومات تحاول إستغلال الموقف لتعزيز سلطتها عبر فرض قراراتها وتمديد فترة نفاذها بشكل يضمن استمراها وليس استنفادها دفعة واحدة.

ومن الملاحظ أيضاً أن الأزمة كانت فرصة لبعض المسؤولين الحكوميين من رؤساء ووزراء ومن منهم أدنى مرتبة لسرقة الأضواء الإعلامية بظهورهم المستمر شبه اليومي على الشاشات والوسائل الإعلامية الأخرى متخذين ذلك بوابة لإظهار أنفسهم كأبطال منقذين للشعب لا كمتسلطين عليهم ولعلهم يتمنون في قرارة أنفسهم لو أن الازمة لا تنتهي قريباً وتدوم أطول فترة ممكنة.

الدلائل تشير إلى بداية إنفراج الأزمة الناجمة عن كورونا فيروس خلال شهر نيسان إبريل القادم حسب معظم التقديرات، وفي ظل هذه المعطيات فالأرجح أن تشهد فترة ما بعد الفيروس عودة المنتصرين لبعض الحكومات ومحاولتها جني غنائم حربها (المقدسة) مع العدو الخفي لتثبيت أقدامها في السلطة أكثر من ذي قبل بعد أن كانت أقرب إلى الزوال منذ أمد ليس ببعيد.

*صحفي من إقليم كوردستان العراق