أتذكر في أواخر تسعينيات القرن الماضي أن مام جلال رحمه الله كتب مقالا في جريدة ( كوردستانى نوى ) لسان حال حزبه الاتحاد الوطني الكردستاني حول خروج " المارد الصيني " من قمقمه مع حلول الألفية الثالثة للميلاد. وتحدث في هذا المقال عن تنامي القدرة الإقتصادية للصين التي كانت في بدايات نموها ، متنبأ بأن هذه الدولة التي كانت تعد من الدول النامية ، ستتحول الى قوى عظمى هائلة تقلب موازين القوى في العالم في ظرف عشرين عاما القادمة.

وصادف أن كنا ضيوفا على مائدته نحن أعضاء المكتب الإعلامي للحزب بعد نشر ذلك المقال ، فإستفاض بالحديث شارحا العوامل التي ستساعد الصين على تحقيق هذا التقدم الهائل خلال الأعوام القادمة ، منها القدرات البشرية المتنامية وحاجة البلد الى فتح أسواق العالم ، وكذلك ظهور بوادر التغيير لدى القائد والمنظر الصيني آنذاك دينغ شياو بينغ وتبنيه لسياسة إقتصاد السوق.

ولم تمر عشرين عاما حتى تحولت نبوءة مام جلال الى حقيقة مؤكدة ، وأصبحت الصين القوة الإقتصادية العظمى في العالم وأصبحت تنافس إقتصاديات أكبر البلدان الرأسمالية بما فيها الإقتصاد الأمريكي. فلم تعد الصين تلك الدولة التي تصنع فقط أقلام الرصاص والدبابيس واللوازم المدرسية وألعاب الأطفال التي تتلف بفترة قصيرة ، بل تفوقت على جميع دول العالم في مجال الإقتصاد والعلوم والتكنولوجيا بما فيها اليابان التي تزعمت لعقود طويلة ريادة المجال التكنولوجي ، مما دعا بأمريكا الى محاربة نمو الصين كقوة إقتصادية جديدة تغزو أسواق العالم.

واليوم ، وفي حين تنشغل معظم الدول الصناعية الكبرى بما فيها أمريكا بوباء الكورونا وتقف عاجزة تماما عن مواجهة هذا الفايروس المجهري ، نرى الصين التي كان يتوقع أن يتفشى الوباء بين عشرات الملايين من أبنائها ، تخرج من هذا الوباء بأقل الخسائر البشرية وتنتصر بشجاعة فائقة على الفايروس وتهزمه.

ولم تكتف الصين بهذا الإنتصار المجيد بل مدت يدها بسخاء لمساعدة الكثير من الدول التي أبتليت بهذا الوباء ، آخرها سعي الصين لفتح "خط طبي" بينها وبين أوروبا ، لإرسال المساعدات الطبية ، لتصبح بذلك " الأمل الأخير " لأوروبا للخروج من أزمة كورونا ، التي أنهكت القارة العجوز.

بالعودة الى تنبؤات مام جلال ، وأنا أترجم مذكراته التي صدرت بعنوان " حوار العمر " للكاتب صلاح رشيد من اللغة الكردية الى العربية ، إستوقفتني عدة أحداث تحدث عنها مام جلال والتي تدل دلالة واضحة على ثاقب بصيرته وصدق تحليلاته العميقة لبعض الأحداث التي رافقت حياته.

ففي حديثه عن علاقته بفصائل المقاومة الفلسطينية والتي كانت علاقة متينة ، أشار طالباني الى أنه كان إجتمع مع الدكتور جورج حبش بحضور غسان كنفاني. وخلال اللقاء حذر كنفاني بأنه سيتعرض الى القتل على يد المخابرات الاسرائيلية. ويقول في مذكراته " أبلغت غسان بأنه سوف يقتل ، لأنه مهمل ولم يتعلم بعد أساليب النضال السري. وحذرته فيما يتعلق بفتح الرسائل التي تردهم ، وقلت له " كيف تفتحون تلك الرسائل بأنفسكم"!. وإقترحت على قادة الجبهة الشعبية أن يضعوا جهاز لكشف المتفجرات في الطابق السفلي من بناية الجبهة لفحص الرسائل ، وبعد أن يتم الفحص يفتح مسؤول الإستعلامات تلك الرسائل قبل أن يأتي بها إليكم ، لأن العدو حين يبلغه بأن رسائله تفتح قبل وصولها إليكم لن يقدم على مثل هذه المغامرة ، ولكن حين يعلم بأن غسان أو بسام أبو شريف سوف يفتحون الرسالة مباشرة فإنه لن يتردد من تفخيخها ". وقلت لغسان" حتى موقع منزلك أيضا غير ملائم لطبيعة عملك ، ناهيك عن قيادتك للسيارة بنفسك ، فهذا خطأ أمني كبير ، فليس بعيدا أن يلغموا سيارتك ويفجروها وأنت بداخلها. ثم قلت له " يجب عليك أن تعلم بأن إسرائيل يدها مطلقة في لبنان ، فإحترس كثيرا أرجوك ". واقترحت عليهم أن يعينوا سائقا لغسان كي لا تبقى السيارة معه في مرآب بناية الحزب التي يقيم فيها ، فقد يأتون ويلغمونها ، وقلت يجب أن تكون السيارة بحوزة السائق يأتيك صباحا ويبقى معك الى حين عودتك في المساء الى البيت ".

ويستطرد " للأسف إعتبر بعضهم أن هذه الإجراءات سمة من سمات البرجوازية خاصة وأنهم كانوا يعيشون في منطقة شعبية. وبالمناسبة قلت لبسام أبو شريف " لقد جاء دورك الان فإحترس أرجوك ، لقد خسرنا غسان ولا نريد أن نخسرك أنت أيضا ، فإحذر من فتح الرسائل بنفسك ". قال "حسنا سأفعل ". لكنه لم يفعل حتى إنفجرت به رسالة ملغومة ، وحين شفي قال لجورج حبش " لو سمعت كلام جلال وتحذيراته لما جرى لي هذا!.

وفي موقع آخر من الحوار يتحدث المرحوم جلال طالباني أيضا عن بدايات علاقة حزبه بالإدارة الأمريكية ، ويقول " قبل أزمة الكويت كانت الإدارة الأمريكية تتحاشى اللقاء المباشر بقوى المعارضة العراقية بشكل علني. وبالنسبة لنا كشعب كردي ، كانت العلاقة لا تتعدى إطار بعض المسائل المتعلقة بحقوق الانسان. ولذلك عينوا مسؤول ملف حقوق الإنسان بسفارتهم في باريس ليكون صلة الوصل بيننا وبينهم. وقبل فترة قليلة من إحتلال الكويت سافرت الى باريس وإلتقيت بهذا المسؤول الأمريكي ، وطلبت منه تأشيرة دخول الى الولايات المتحدة لألبي دعوة وجهت لي من المؤتمر الوطني الكردي بأمريكا. وأخذ مني جواز السفر وكلف موظفا لديه بإتمام الإجراءات. ثم جلسنا نتجاذب أطراف الحديث ، وكانت الأنباء تشير في ذلك الحين الى إستعدادات الجيش العراقي للحركة ، وكان الأمريكان يعتقدون انها تحضيرات للهجوم على إسرائيل. فقلت لهذا المسؤول الأمريكي " لا أعتقد بأن هذه التحركات تستهدف إسرائيل ، بل هي لإحتلال الكويت ، وحين يحتلها صدام سيشكل حكومة مصطنعة ثم سيعلن إلحاق الكويت بالعراق"!. فضحك الدبلوماسي الأمريكي ثم قال " هذا أمر صعب جدا تحقيقه ". قلت " لا أعرف إن كان صعبا أم لا ، ولكني أعتقد بأن ماسيحصل لاحقا سيغير خارطة المنطقة برمتها ، بضمنها خارطة العراق ، وهذا أمر لاعلاقة له بإسرائيل. لكنه لم يقتنع بما قلت فتركته ".

هذه الأحداث التي تنبأ بها الراحل مام جلال تدل دلالة واضحة على أنه كان زعيما ثاقب البصيرة ودارسا للأحداث بعمق ، وكيف لا وهو الذي أصبح عضوا عاملا في الحزب الديمقراطي الكردستاني وهو بعمر الرابعة عشر ، وأصبح عضوا قياديا في أوائل عشرينياته ، وأصبح عضوا في الوفد الرسمي للقاء الزعيم العربي الكبير جمال عبدالناصر وهو في الثلاثين من عمره.
كل هذه الخصائص والسمات القيادية التي برزت فيه تجعلني أقول وبأسف بالغ ، أن مام جلال لو لم يكن كرديا بلا دولة ، لكان شأنه عظيما ، شأن أولئك الزعماء التاريخيين الذين غيروا وجه العالم.