المهتمون بشؤونها يعتقدون أن ألمانيا تمتلك الوسائل الأكثر نجاعة في التصدي للتطرف اليميني الذي يهدد الديمقراطيات الأوروبية راهنا. ويعود ذلك إلى أن تاريخها المعاصر كان موسوما في فترات مختلفة، خصوصا خلال الفترة النازية السوداء بأشكال متعددة من التطرف والعنف.

وبعد انهيار جدار برلين في خريف عام 1989، أطلت الجماعات اليمينية المتطرفة من جديد لتقترف جرائم بشعة كان بعض المهاجرين الأجانب من ضحاياها. وخشية توسع تلك الجرائم، بادرت السلطات الألمانية ببلورة استراتيجية أمنية وتربوية وثقافية تهدف إلى مواجهة التطرف اليميني الذي يتغذى أساسا من الأطروحات النازية التي تؤكد على تفوق الجنس الآري على جميع الأجناس الأخرى، وعلى أن ألمانيا هي البد الأكثر سموا في العالم برمته.
ولا تقتصر هذه الاستراتيجية على المراقبة الأمنيّة للجماعات اليمينية المتطرفة، بل تشمل مجالات أخرى. فقد تم بعث مؤسسات مهمتها فتح نقاشات واسعة في المدارس والجامعات، وأيضا في النوادي الرياضية، حول مساوئ العنصرية، وكراهية الآخر، واحتقار دينه أو ثقافته. وتقوم هذه المؤسسات بأعمال تساهم في توفير وسائل تساعد الأطفال والشبان على اكتشاف المخاطر الناجمة عن التطرف الذي تشيعه وتحرض عليه الجماعات اليمينية المتشددة التي تدعو جهارا الى طرد المهاجرين الأجانب، والانتقام منهم. ولا تقتصر هذه الوسائل فقط على حماية الأطفال والشبان من التطرف اليميني، بل تتعدى ذلك لتشمل الجمعيات المدنية، والمؤسسات العامة والخاصة ليكون المجتمع الألماني برمته في مواجهة مفتوحة مع التطرف اليميني.

وترى عالمة الاجتماع سينتيا ميللر-ادريس المتخصصة في أطروحات الحركات اليمينية المتطرفة أن الاستراتيجية الألمانية المذكورة يمكن أن تكون صالحة للعديد من البلدان الغربية التي تشهد راهنا تصاعدا مخيفا لليمين المتطرف والشوفيني. كما أنها يمكن أن تكون مفيدة أيضا لكل البلدان العربية والإسلامية التي تعاني من تطرف الحركات الدينية التي حولت حياة شعوبها إلى جحيم، معطلة النمو الاقتصادي، ومزعزعة الاستقرار، وناشرة الخوف والكراهية والعداوة بين أبناء الشعب الواحد. وإلى حد الآن، اقتصرت الدول العربية والإسلامية على مواجهة هذه الحركات بالطرق الأمنية والقضائية. إلاّ أن هذه الطرق أثبتت عدم جدواها. بل أن الحركات المتطرفة استغلتها لصالحها لتصبح شهادة ترفعها أمام الرأي العام، وأمام منظمات الدفاع عن حقوق الانسان للتشهير باستبداد وطغيان الأنظمة الحاكمة.

لذا يتوجب توخي طرق جديدة تجاه هذه الحركات، ورسم استراتيجية ناجعة تقوم أساسا على اعداد وبلورة برامج تربوية وثقافية تركز على مبادى التسامح، والاعتراف بالآخر القريب والبعيد، واحترام حقوق المرأة، والتعريف بتاريخ الأديان والحضارات، وترسيخ القيم الانسانية التي تساعد الأجيال الشابة على النفور من كل ما يدفع بها إلى التشدد والعنف، ويجعل ثقافة الموت سلاحها الوحيد في مواجهة ثقافة الحياة.