لم تعد باريس مدينة الأضواء ونامت نيويورك على أحزانها اما سور الصين فلم يعد عظيما وهرم خوفو أصبح وحيدا يناجي أبا الهول وتوقفت حركة الطائرات في الأجواء وخفت زحمة لندن وبان صحن الكعبة ابيضا ناصعا، تغير العالم بين ليلة وضحاها وبتنا نعمل من بيوتنا ولم تعد المقاهي مكانا للقاءات اما المطاعم فأغلقت أبوابها وانصرفت بعضها لتوصيل الطعام كي تحافظ على القليل من مدخولها.

مئات الملايين من البشر خرجوا لإجازات قسرية لا يعرف معظمهم أن كانوا سيعودون إلى اعمالهم وهل سيجدون مكانا للعمل بعد انقضاء الأزمة والحجر الصحي والمنزلي والقسري.

مليارات من الناس لا تعرف ما تخبئ الأيام ولا يعلم احد من علماء العصر ما الحل وما الدواء وكيف الخروج من ظلمة كورونا وغياهب تركيبته الجينية المستعصية حتى اللحظة.
عالم كورونا الجديد خلق واقعا آخر ونمط حياة آخر ومختلف غير ما اعتدنا عليه، البقاء في البيت وعدم الاختلاط ووقف كل أشكال الاجتماعات من اعراس وافراح واتراح ولقاءات ومؤتمرات وتعليق الدراسة والتعليم وعمل الجامعات والمعاهد والمدارس وحتى أماكن العمل قلصت عدد موظفيها وعمالها إلى أقل ما يمكن.

أصبحنا نعمل عن بعد وندرس عن بعد ونتحدث مع أحبابنا وأهلنا عن بعد، نجتمع عن بعد ونناقش عن بعد وصرنا نرى أن غالبية الأمور ما قبل كورونا أصبحت تافهة وغير ذات أهمية الان، فمثلا ما عادت الحروب مهمة ولا الثورات، وحتى الاتحاد الأوربي بدأ يتفكك والولايات المتحدة انطوت على نفسها تواجه وباءا فتاكا والصين تعالج نفسها وتحاول النهوض باقتصادها وروسيا أغلقت أبوابها وكذلك فعلت باقي بلدان العالم.

في هذه الأزمة المتفاقمة من يوم لآخر عرفنا اولا قيمة الحياة والتفاصيل الصغيرة وأهمية حياتنا البسيطة من اللقاء في مقهى الحي إلى حضور فيلم بالسينما وحتى التجول في معرض للرسومات او زيارة لسوق شعبي هنا او مركزا تجاريا هناك كما اننا عرفنا قيمة العمل وقيمة زيارة الاهل والأقارب والمشاركة في مناسبات اجتماعية او لقاء أصدقاء عادي في بيت هذا او ذاك.

بتنا نفتقد اشياء كانت بديهية، عادية واحيانا مملة، حتى نزهة في الحرش أصبحت أمرا مستحيلا فنحن نتغير اما الطبيعة فلا، هي ذات الطبيعة وذات الجبال والأشجار والوديان والانهار، ذات الحيوانات وذات الغيوم والشمس والقمر، العالم يرانا منغلقين صغار أمام عظمة الطبيعة الخلابة الجميلة والتي باتت تتعافى من شر ما صنعنا بها خلال مائة عام ونيف من التطور والسرعة والتخمة في الاستهلاك وتصدير النفايات إلى البحار والجبال وباطن الأرض وفي السماء، نسبة التلوث تخف بفعل كورونا ونحن تستهلك الآن ما نحتاجه فقط دون إسراف أو مبالغة.

كورونا جعل التكنولوجيا أداة، ندير من خلالها تفاصيل الحياة الجديدة من بين الجدران ومن داخل بيوتنا التي أصبحت فجأة قصورا اكتشفنا فيها جمالا لم نكن نراه خلال حياة السرعة والتنقل والسفر وريادة المقاهي والمطاعم، فالمطبخ أصبح اجمل والصالون احلى وأوسع وفجأة اكتشفنا اننا عائلة.

رب ضارة نافعة هكذا قالت العرب قديما، كورونا وباء ضار وقاتل ومرض عصي عن الدواء لكنه غيّر العالم بين ليلة وضحاها واوقف التلوث بدون مؤتمرات دولية وجمع شمل العائلات بسرعة متناهية ووفر علينا الأموال والمشتريات وعمق اهتمام الدول بمواطنيها وجعلها ترصد تريليونات من الدولارات لعبور الأزمة. كورونا جعلنا نتعلم عن بعد وسخر لنا التقنيات للاستعمال اليومي والمفيد بدل استخدامها في الحروب والخلافات، الحياة في زمن كورونا غيرها قبله وستتغير حتما بعده.