ساهمت أزمة فايروس كورونا في ألمانيا خلال الفترة السابقة في توضيح صورة وكشف طبيعة قيادات الأحزاب الألمانية الرئيسية بمختلف توجهاتها، بحكم أن الولايات اﻻلمانية يحكمها سياسيون من أحزاب مختلفة، تبدأ من يسار الوسط متمثلاً بحزب الخضر، وتنتهي بيمين الوسط متمثلاً بحزبCSU الذي يحكم ولاية بايرن وينشط ضمن حدودها فقط مع مشاركته بإتخاذ القرار على مستوى الحكومة الإتحادية. فقد إنعكست طريقة إدارتهم للأزمة وسرعة وكيفية تعاطيهم مع مستجداتها على مُدنهم وسكانها بأشكال مختلفة بحكم طبيعة النظام الفيدرالي للبلاد، كما إنعكست على بعض قرارات الحكومة المركزية من خلال مقترحاتهم أو ضغوطاتهم في بعض الأحيان.

وقد برزت في هذا الإطار جبهتين أساسيتين. واحدة كانت تطالب بإعتماد إجرائات الحجر الصحي مبكراً، وتدعوا حالياً للتمهل بإرخائها حتى لا تضيع كل الجهود والنجاحات التي تم تحقيقها بمواجهة الفايروس هباءً، مما قد يتسبب في إنتكاسة وإرتفاع بعدد الإصابات قد يرهق النظام الصحي ويؤدي الى سقوط ضحايا بأعداد كبيرة لا يمكن السيطرة عليها، يمثل ماركوس زودر رئيس حزبCSU وحاكم ولاية بايرن أبرز أقطابها، بالإضافة الى توبياس هانز حاكم ولاية سارلاند من حزبCDU، وفينفريد كريتشمان حاكم ولاية بادن فيتمبيرغ من حزب الخضر، وميشائيل مولر حاكم ولاية برلين وشتيفان فايل حاكم ولاية سكسكونيا السفلى وكلاهما من حزب SPD. والثانية كانت ترفض هذه الإجرائات حتى بشكلها الحالي، الذي هو أساساً أقل تشدداً من أغلب دول العالم، وتدعوا لإرخائها والتقليل منها سريعاً، ويقودها حاكم ولاية شمال الراين فيستفاليا آرمين لاشيت من حزبCDU، ومعه مانويلا شفيسيش حاكمة ولاية ميكلينبورغ فوربوميرن من حزب SPD، وميشائيل كريتشمر حاكم ولاية ساكسن من حزبCDU. والصراع بين هاتين الجبهتين عادة ما يلقي بظلاله على الإجتماعات التي تعقدها المستشارة ميركل مع حكام الولايات بين فترة وأخرى، لتقييم الإجرائات التي تم إتخادها للتعامل مع أزمة كورونا في مراحل سابقة وإعادة النظر فيها والخروج برؤية مشتركة حول طبيعة الإجرائات الخاصة بالمراحل المقبلة. وقد نجحت المستشارة خلال الفترة الحرجة السابقة وحتى الآن بتقريب وجهات النظر والخروج بقرارات ترضي أغلب الأطراف، دون أن يؤثر ذلك على تركيبة النظام السياسي والإداري للبلاد، وعلى شكل الحكومة وحكام ولاياتها، رغم أن جزئاً من أجواء هذا الصراع قد خرجت الى العلن وتداولتها وسائل الإعلام، لكنها بقيت تحت السيطرة.

هناك نقطتان هما ربما أهم وأبرز مايمكن تشخيصه والخروج به من ملاحظات حول هذا الأمر. الأولى هي أن ساسة مثل ماركوس زودرأو توبياس هانز قد بدأ نجمهم يسطع في سماء السياسة الألمانية كرجال مهمات صعبة ومواقف مسؤولة، على العكس من آرمين لاشيت، الذي بدا غير مسؤولاً في قراراته التي لوحظ بأنها تراعي الاقتصاد على حساب الصحة، ومشوشاً في تصرفاته التي ليس أولها إرتداءه مرة للكمامة بشكل خاطيء خلال زيارته لأحد المشافي، أو إنفعاله على مراسلة تلفزيونية واجهته بإستطلاع للرأي أظهر تراجع شعبيته مقابل صعوود شعبية زودر. وهو ما قد ينعكس مستقبلاً على خيار مَن يمكن أن يخلف ميركل بحكم ألمانيا، على ضوء ما أفرزته وبلورته الأحداث الأخيرة من قيادات قادرة على أن تضطلع بهذا الدور وتملأ الفراغ الذي ستتركه قيادة سياسية كان لها حضورها وتأثيرها الكبير كميركل، تركت بصمة ليس فقط على مستوى بلادها أو محيطها الأوروبي لا بل وعلى مستوى العالم. وهنا قد تتغير الخيارات والترشيحات، فقد تطيح بلاشيت الذي كان أحد أقوى المرشحين لخلافة ميركل نظرياً، لكن أداءه عملياً أثبت عدم كفاءته لهذه المهمة، بعد أن فشل على مستوى ولاية، فكيف إذا تعلق بدولة بحجم ألمانيا وثقلها السياسي والإقتصادي! فيما بدا زودر أكثر كاريزماتية وقدرة على مواجهة الأزمات وإتخاذ القرارات السريعة والصائبة بمسؤولية، مما قد يؤهله ليكون مرشحاً محتملاً لخلافة ميركل. هذا بالإضافة الى الهارموني والتناغم المثير للإعجاب الذي شهدناه بين وزير المالية أولاف شولتز، وهو من حزب SPD وبين المستشارة ميركل حينما أناب عنها في إدارة البلاد خلال فترة الحجر المنزلي، إذ لم يشعر الألمان بأي تناقض بين سياسته وسياسة المستشارة رغم أنهما من حزبين مختلفين كانا لفترة طويلة المتنافسين الأقوى على حكم ألمانيا. أما النقطة الثانية، فهي أننا شهدنا إصطفاف سياسيين مِن مَشارب سياسية مختلفة ومتناقضة في جبهة واحدة، بمواجهة سياسيين من نفس أحزابهم إصطفوا بدورهم في الجبهة المقابلة. والسبب هو أن الأمر هنا يتعلق بوعي وخيارات خاصة بإدارة أزمة تهدد مصير دولة ومجتمع، والتي يتصدى لها السياسي في الغرب كموظف إداري مسؤول عن حياة الناس ومصالحهم، وليس كمتحزب صاحب عقيدة سياسية، وبالتالي لا يتعامل معها وفق قناعاته الفكرية وإنتماءه الحزبي. وهذا الأمر للأسف مفقود تماماً بدولنا ومجتمعاتها، التي تعطي للسياسي أكبر من حجمه وتتعامل معه كإله وليس كمسؤول إداري، فيعيش هو هذا الدور، ويبدأ بالتعامل مع أفرادها كأتباع وعبيد، ويمتنع عن توفير أبسط متطلبات العيش الكريم لهم، لأنه يعتبر بأن أموال البلاد وخيراتها ملك صرف له، وإذا أراد أن يعطيهم منها شيء فمن باب المِنّة والمَكرمة!