قلنا ورددنا مرارا بأن نفط العراق كان عبر التاريخ نقمة على العراقيين . فمنذ أن سيطر العسكر على السلطة في هذا البلد وأطاحوا بالحكم الديمقراطي الملكي، كانت هذه الثروة العظيمة وبالا على الشعب العراقي عبر تسخيرها لمشاريع عسكرة الدولة وتدعيم السلطات الدكتاتورية المتعاقبة على حكم العراق، فبدل أن تتحول الى ثروة لتحقيق رفاهية الشعب وبناء مستقبله المزدهر ، أًصبحت نقمة عظيمة عليه. ووصلت هذه السياسة العبثية الى ذروتها في عهد صدام حسين الذي بدأ باستغلال هذه الثروة لإنشاء ترسانة عسكرية مخيفة تمهيدا لشن حروبه العبثية ضد إيران والكويت دول التحالف، وهكذا تحولت ثروة العراق النفطية، من نعمة مرجوة، الى نقمة مستمرة.

كنا نحن الشعب الكردي ننظر الى الثروة النفطية بكركوك بإعتبارها ثروة كردستانية مهدورة ، وكتبنا سيلا من المقالات نصور فيها تلك الثروة بأنها أصبحت نقمة على شعب كردستان . وكان الأمر كذلك فعلا، فقد إستخدم النظام الصدامي هذه الثروة لشراء الأسلحة بما فيها أسلحة الدمار الشامل لقمع الشعب الكردي ، ولما سقط النظام وتحرر العراق تنفسنا الصعداء على أمل أن تعود تلك الثروة لتحقيق رفاهية الشعب وبناء مستقبله . وكلنا يتذكر ذلك المشهد اللطيف الذي تناقلته وسائل الإعلام المحلية والعالمية حين إجتمع الزعيمان جلال طالباني ومسعود بارزاني داخل إحدى القاعات ليشغلوا معا ماكنة رمزية لإنتاج النفط الكردي الذي تم إكتشافه حديثا في مناطق بكردستان، وصفقنا لذلك الحدث بحرارة على أمل أن تعوض الثروة الجديدة الظلم اللاحق بشعبنا، خصوصا وأن الأمر تزامن مع زوال ظل الدكتاتورية وبزوغ فجر الحرية في كردستان . لكن جرت الرياح بما لاتشتهي السفن!.

فمنذ عام 2007 ومع إكتشاف الحقول النفطية في كردستان بدأت عمليات التهريب عبر الشاحنات تجري على قدم وساق بعيدا عن سيطرة الدولة ، وأصبحنا نسمع عن الكثير من العقود النفطية المبهمة التي أدى غياب الشفافية فيها الى حدوث مشاكل مزمنة مع بغداد التي تنظر الى الثروة النفطية بعموم العراق بأنها ملك للشعب العراقي وفق الدستور. لكن السلطات الكردية عاندت وأصرت على التصرف بهذه الثروة بعيدا عن سيطرة الدولة المركزية وتبنت سياسة نفطية مستقلة دمرت كردستان لاحقا . فقد طفت على السطح عصابات مافياوية إستغلت تلك الثروة لمصالحها الخاصة وليس لمصلحة الشعب الكردستاني المحروم، وهذا ما عقد المشكلة أكثر مع بغداد التي لجأت أخيرا الى قطع تمويلها لحكومة الإقليم من ميزانية الدولة العراقية . وأصبحت عوائد النفط الكردي غير الشفاف أصلا ، هي المصدر الوحيد لتأمين رواتب موظفي الحكومة في أربيل . وهنا تبين حجم الكارثة الإقتصادية الكبرى الناجمة عن إنتهاج سياسة النفط المستقلة، فالإيرادات غير الشفافة لتصدير النفط لم تعد تغطي الحاجة، وفي غياب مصادر اخرى للتمويل لجأت حكومة الاقليم في خطوة غير مسبوقة بأي دولة بالعالم الى تخفيض رواتب موظفيها الى الربع ، على الرغم أن بعض التقارير تحدثت عن تصدير الإقليم لما يقرب من نصف مليون برميل من النفط يوميا !!.
لقد عانى موظفو الحكومة والمجتمع عامة من ضائقة إقتصادية مميتة لأكثر من أربع سنوات متحملين شظف العيش والعوز والفقر. ولعل ترهل مؤسسات الحكومة وقيامها بتعيين أكثر من نصف مليون من الموالين للحزبين الحاكمين بوظائف الحكومة ( موظفين بلا دوام ) هو السبب الرئيسي لعدم كفاية ايرادات النفط لتغطية رواتبهم.

المهم ان الأزمة المالية بسبب توقف بغداد عن تمويل حكومة كردستان أدت الى تراكم ديون خارجية تقدر بمليارات الدولارات على حكومة الإقليم ، وديون داخلية تقدر أيضا بمليارات الدولارات والتي ترتبت عليها بسبب قطع نسبة من رواتب موظفيها تحت مسمى " الادخار " ، بما فيها رواتب سنة كاملة للمتقاعدين ، أضف اليها رواتب أربعة أشهر أخرى من هذا العام عجزت حكومة الإقليم عن دفعها لحد الان.

في بداية العام الماضي جاءت مبادرة من حكومة عادل عبدالمهدي بإطلاق 453 مليار دينار لتغطية رواتب موظفي الإقليم ، وهذا المبلغ يشكل رواتب نصف موظفي الإقليم البالغ عددهم المليون والنصف ، فأخذت حكومة الإقليم تعتمد على جزء من الإيرادات النفطية والجمركية لتغطية النقص الحاصل . ومشى الحال .
وكانت بغداد تشترط على حكومة الإقليم تسليمها 250 ألف برميل نفط يوميا لضمان إستمرارية الدفع ، لكن حكومة الإقليم ماطلت كثيرا ولم تستسلم لهذا الطلب، وتواصلت المشاكل مع بغداد في ظل عجز حكومة الإقليم عن إيجاد بدائل أخرى لدفع رواتب موظفيها.

والان ، هناك دعوات تتصاعد يوميا من قبل نواب البرلمان العراقي والقوى السياسية في بغداد لوقف تمويل حكومة الإقليم بسبب إمتناعها عن تسليم الحصة المقررة من نفطها ، وأصبح هناك من يضغط بشدة على رؤساء الحكومة العراقية بهذا الاتجاه. ومع ظهور جائحة كورونا ووصول أسعار النفط الى الحضيض، أخيرا إستسلمت حكومة الإقليم للأمر الواقع ووافقت في الوقت الضائع على تسليم تلك الحصة من النفط الى بغداد، ولكن بعدما وقع الطاس في الرأس كما يقولون . فلا أسعار النفط العالمية تغري حكومة بغداد لقبول هذا التراجع من حكومة الإقليم ، ولا هي مستعدة لتمويل الإقليم من ميزانية الدولة التي أصبحت بدورها خاوية بسبب تدني أسعار النفط العالمية.

لقد ناشدت حكومة الإقليم بمقال كتبته باللغة الكردية أن تبادر بتسليم كامل نفطها الى الحكومة المركزية لضمان حصولها على حصة الإقليم البالغة 17% من موازنة الدولة كما كان الأمر في السنوات السابقة، لكن حكومة الإقليم من عادتها أن لا تستمع الى أصوات المخلصين ، وبينت في مقالي بأن العراق كدولة نفطية قادرة على الصمود بوجه الأزمات المالية الطارئة ، وأن القوى العظمى لن تسمح بإنهيار إقتصاد دولة نفطية مهمة كالعراق ، أما حكومة الإقليم فإنها سوف تختنق بمجرد وقف بغداد دفع جزء من رواتب موظفي الإقليم ، وها نحن نقترب من الإنهيار التام !! . والطامة الكبرى في الأزمة الحالية أنها تتزامن مع الأوضاع السيئة التي فاقمتها جائحة كورونا من جهة ، وتدني أسعار النفط العالمية من جهة أخرى.

والسؤال الاخير هو " هل تستطيع حكومة الإقليم الصمود بوجه هذه الأزمات الخانقة، أم ستضطر الى التنازل عن كبريائها وتسلم كامل هذا النفط اللعين الى الحكومة اللعينة ببغداد التي تستغل قوت الشعب للمساومة، لكي يستريح الشعب الكردي من نقمة هذه الثروة اللعينة؟