لتفكيك المشهد السياسي التونسي وفهمِه لا بد ان يتسلّح المُحللون بأدوات تحليل غير كلاسيكية فالمشهد على غرابته وغُربته وسُورياليته يجعل التفسير كمن يحرث في البحر. فكل مرة نتخيلُ فيها أننا وصلنا الى نُقطة الفهم ُبعد التمعن والتبصُر وحلٍّ شِفرات الساحة السياسية المستعصية على الفهم، إلا واطل علينا احد السياسيين بتصريح أو يُقوض أسس المفاهيم السياسية المتعارف عليها و يجعلنا نفتح صفحة بيضاء جديدة بالمفهوم الديكارتي للكلمة table rase.

قلنا منذ الخطوات الأولى من تشكيل حكومة الفخفاخ الحالية، وعلى أعمدة ايلاف، ان الاختلاف بين مكونات الحكومة ليس اختلافا بسيطا يُختزل في تبيان وجهات النظر أو حول تبني سياسة عامة بعينها مثلما هو متعارف عليه في الأنظمة البرلمانية التي تُشبهنا او حتى الرئاسية، حيث تختلف أحزاب الخضر مثلا عن الأحزاب ذات التوجهات اللبرالية او اليسارية ضد اليمينية. لكن ما ان تتشكّل الحكومة من فسيفساء حزبية، وفي حال لم تُسفر الانتخابات على حصول حزب او اثنين على اغلبية مريحة، حتى تتفِق هذه الأحزاب على أرضية دُنيا للعمل المُشترك وفق برنامج واضح، تحكُمها في ذلك التوافقات و التنازلات من جميع الأطراف، ويبقى التضامن الحكومي ديدنهم في العمل لأنه لا معنى من تكوين حكومة ائتلافية إذا كانت الأطراف المُشكّلة لها مختلفة لا في مساءل بسيطة يمكن ان تُحل بالتفاوض و إنما في قضايا جوهرية، كمنوال التنمية والحريات وتوجهات الدولة اجتماعية او تعتمد كليا على إقتصاد السوق، وغيرها من المسائل المصيرية بالنسبة للبلاد و المواطن.

ما نلاحظه في تونس، ويترسخ أكثر فأكثر، هو هذا الاختلاف الجوهري والعميق بين الأحزاب المكونة للائتلاف الحاكم ليس على مستوى الأفكار والتوجهات السياسية فحسب وإنما حتى على مستوى التسيير اليومي لدواليب الدولة، اذ كيف نفهم ان يستعِد أحد وزراء حزب النهضة الإسلامي لزيارة سوق أسبوعية فيسبقه وزير التجارة من حزب حركة الشعب القومي بفريق من المراقبين الاقتصاديين لغلق السوق؟ أليست هذه مهزلة المهازل؟

نحن هنا لسنا إزاء رواية أو مسرحية لبيكيت أو كامو حيث يلعبُ العبث بالشخوص ويترُكها لمصيرها كمركِب تتقاذفُه أمواج البحر. نحن هنا، أو بالأحرى من المفترض ان نكون في حكومة يحكمها الحد الأدنى من التفاهم والتنسيق والتضامن كي تضمن نجاعةً في العمل الحكومي من جهة وتكون "قدوة" أمام رأي عام ملّ السياسة والسياسيين.

ليس هذا فحسب، وهذه قصة أخرى قد تُدرّس يوما ما في اكبر الجامعات الدولية، فقد حمّل القيادي في حركة الشعب، احد مكونات الحكومة، رئيس مجلس النواب راشد الغنوشي مسؤولية سلامته الجسدية بعد ما تعرض اليه من تهديد من خلال حملات فايسبوكية زعم انها لحركة النهضة. وقال القيادي بحركة الشعب، "تجنّدت صفحات حزبك الالكتروزنية لسبي وشتمي وتهديدي بشكل منتظم وممنهج وحيث نحملك بصفتك رئيس تنظيم الاخوان في تونس واحد قياداته على المستوى الدولي المسؤولية التامة عن هذه العجمة المغرضة كما نحملك مسؤولية سلامتي الجسدية". و لما سُؤل عن معنى هذا التناقض الواضح بين ان تكون في حكومة و ان تتهم رئيسها بكونه من تنظيم الإخوان و ان حزبه يشن حملة على حليفه في الحكم، أجاب بأن النهضة تعلب على حبلين، فهي حسب قوله تسعى الى اسقاط الحكومة التي تُعتبر احد ابرز مكوناتها و هي أيضا تضع يدها في يد المعارضة، أي ببساطة هي في الحكومة وفي المعارضة في نفس الوقت, هكذا وفي المُحصلة نجد حكومة كل مكوناتها تقريبا في الحكم والمعارضة في نفس الوقت، وهذا استثناء تونسي يمكن تفسيره بسببين إثنين:
-أولا إنّ تكوين هذه الحكومة لم يكن على قاعدة القناعة أو التوافق البرامجي والفكري، و إنما املتهُ الضرُورة، و بالتالي فهي لن تستمر طويلا بل زوالها سيكون بزوال أسباب نشأتها ونقصد بذلك خاصة دعم الرئيس قيس سعيد الذي اختار الياس الفخفاخ بعد فشل مرشح النهضة في تشكيل الحكومة الأولى، و النهضة لن تعفر لسعيد ذلك بل إنها سوف تنتظر أول فرصة لإعادة إحياء فكرة حكومة الواحدة الوطنية لتضم حزب قلب تونس و تكوين تحالف حكومي على المدى البعيد يضُم كل من حزب النهضة و حزب قلب تونس.

-ثانيا، ان كل الأحزاب الحالية الحاكمة لا تريد تحمُل مسؤولية تبِعات جائحة الكورونا التي سوف تظهرُ انعكاساتها على الفرد والمجتمع والنسيج الاقتصادي بمجرد عودة الحياة الى نسقها الطبيعي. فالكورونا تماما كأمواج التسونامي التي ما ان تمُرّ على قرية حتى نكتشف حجم الدمار والخراب الذي يخلفُها. وهذا ما لا تتمناه اية حكومة وحزب إدعى أنه سوف يجد حلولا لمشاكل خلفتها حكومات ما بعد الثورة وما قبلها.
كان يتفرض، ونحن هنا مرة أخرى في باب الافتراض ولسنا في خانة الواقع، ان تتفِق الأحزاب المكونة للحكومة على الأقل حول مكافحة الفساد وان تكون كما أعلن عن ذلك الفخفاخ، حكومة قوية وعادلة لا تستثني من "على رأسه ريشة" ان كان وزيرا او مسؤولا ساميا لأن التضامن الحكومي لا يعني تغطية عين الشمس بالغربال عندما يكون المخطئ ولو عن حسن نية، وزيرا وفتح عدسة المجهر على مداه إذا كان المشتبه به من الصف الثاني والحلقة الأضعف في ماكينة الفساد. لأن الحكومة في هذه الحالة سوف تُخطئ المرمى كمن يُطلِق النار على قدمه.