واضح أن الرئيس التونسي قيس سعيد الذي باشر مهامه بخطبة عصماء عن مقاومة الفساد، وتحرير القدس أواخر السنة الماضية، لا يرغب في أن يعيش الزمن التاريخي، زمن وباء الكورونا، والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تزداد تعكرا واستفحالا يوما بعد آخر. وربما لهذا السبب هو يلجأ في كل مرة إلى "الزمن الخرافي:، أو "الزمن المقدس" كما يسميه اعالم الاجتماع الكبير مارسيا الياد،

زاعما أنه الخليفة عمر بن الخطاب الجديد ، الحاكم العادل، صاحب القلب الرحيم الذي لم يكن ينام إلاّ بعد أن يتفقد رعيته، ويمنح الفقراء منهم ما يخفف عنهم شفاءهم وعذاباتهم. واقتداء به، دأب قيس سعيد خلال الأشهر الماضية على الخروج ليلا محروسا برجال الأمن، وبالجيش أحيانا، بهدف توزيع مساعدات لا تكفي العائلة الواحدة ليلتين أو ثلاث.

ورداً على الانتقادات التي وجهت إليه، والمتعلقة بالخصوص بالتكلفة الباهضة لمثل هذه الزيارات، والمثقلة لخزينة الدولة، والمتجاوزة لقرار منع الجولان بسبب وباء الكورونا الذي أمضاه هو نفسه، قال قيس سعيد أمام أعضاء المجلس الأعلى للأمن بأنه فعل كل هذا "أسوة بعمر بن الخطاب"، مضيفا أنه يفضل أن يوزع المساعدات ليلا لأنه لا يريد أن "يراه أ حد". وهو هنا يقر بما لا يمت بالحقيقة بأية صلة إذ أنه لا يخرج وحده ليلا مثلما كان يفعل عمر بن الخطاب في مكة، بل مُدججا بموكب ضخم بأكثر من ثلاثين سيارة. وفي صبيحة اليوم التالي، تتصدر صور موكبه صفحات الاتصال الاجتماعي لتكون حديث التونسيين في جميع أنحاء البلاد. وبذلك هو يقدم بنفسه الدليل الواضح على أنه لا يعيش في زمن الانترنت والفيسبوك، وإنما في زمن الأوهام والخرافات والتضليل...

والبعض من هذه الزيارات تفضي إلى طرائف يضحك لها التونسيون، أو ربما يبكون لأنهم تعكس أوضاعهم المأساوية بعد أن كانوا يظنون أنهم أصبحوا أكثر الشعوب العربية والافريقية تمدنا ووعيا، وادراكا لمفهوم الدولة الحديثة. فخلال زيارته إلى أرياف القيروان بالوسط التونسي التي تعاني بالخصوص من نقص فادح في الماء الصالح للشراب، أطلق الرئيس قيس سعيد موكبه الضخم في ظلمة الليل في خرق خطير لمنع الجولان، في الحقول، وفي القرى الصغيرة ليمنح مساعدة لرجل كان قد بعث له بيضة زاعما إن تلك البيضة هي ما يملكه لعشاء أطفاله. لكن سرعان ما شاع الخبر بإن هذا الرجل معروف بحيله وألاعيبه، وأنه في الحقيقة ميسور الحال لكنه يتفنن في اختلاق ما يجعل أصحاب القلوب الضعيفة والحنونة مثل قلب الرئيس قيس سعيد تنفطر حزنا على حاله. وقبل أن يغادر، خطب الرئيس التونسي بلغته الفصيحة في أهالي الأرياف الذين أحاطوا به بأعداد غفيرة. ولعلهم من فهمموا من كلامه أن المسؤول عن فقرهم هو المسؤولون الحكوميون في المنطقة. فما كان منهم إلاّ أن حاصروا صبيحة اليوم التالي مقرات المعتمديات في مشهد فوضوي مُشين للمطالبة بحقوقهم بوصية من قيس سعيد.

ولو لم يكن الرئيس قيس سعيد حريصا على أن يعيش في الزمن الخرافي خشية مواجهة "الزمن التاريخي" لكان قد أدرك أن توزيع مساعدات طفيفة في ظلمة الليل، لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن يكون حلا للأوضاع المأساوية التي يعاني منها التونسيون سواء في الأرياف أم في المدن لأن مثل هذه الأوضاع تتطلب يلورة برامج اقتصادية واجتماعية واضحة ودقيقة. كما أنها تتطلب معالجة لملفات الفساد الكثيرة المكدسة على المكاتب، أو المخبأة في الخزائن الرمادية. وبما أنه وعد في خطاب تنصيبه، وفيخطب كثيرة أخرى، بأنه سيهتم بمعالجة جذرية لقاضيا الفساد التي استفحلت في سنوات ّالثورة المباركة"، فإن الرئيس قيس سعيد مطالب بتنفيذ وعوده. أما الصمت عنها، والهروب ليلا إلى الأرياف، وإلى القرى الصغيرة فلن يكون مجديا لا اقتصاديا ولا اجتماعيا، بل لعله يكون وسيلة اختراها لتلميع صورته، موهما السذج من الفقراء والمساكين بأنه الخليفة عمر بن الخطاب العائد من العالم الآخر.