الحديث عن نهاية أو تفكك التحالف الاستراتيجي القائم بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة منذ أربعينيات القرن العشرين يبدو في أحيان كثيرة أشبه بالنقاش البحثي والنخبوي المتكرر عن نهاية العصر الأمريكي، وأفول زمن الهيمنة والأحادية القطبية وغير ذلك، فهو حديث يطفو على السطح مع كل تباين في الرأي والمواقف والسياسات بين الحليفين الاستراتيجيين.

الثابت في المسألة أن أسس وركائز وثوابت التحالف الأمريكي السعودي قائمة ولا تزال تتمتع بالقوة والوهج الذي كانت عليه منذ عقود مضت، ولكن هذه الحالة من الرسوخ والثبات لا تنفي أن هناك مياهاً كثيرة قد جرت في قنوات هذا التحالف، ففي السياسة تعلو المصالح دائماً، ولكن يبقى المحك دائماً في قدرة الحلفاء على التفاعل وابداء المرونة الاستراتيجية للابقاء على شبكة المصالح الأساسية والتعامل مع أي إشكاليات ناجمة عن وقوع تضارب أو تباين سواء في المصالح الأساسية أو الثانوية للطرفين.

والحقيقة أن مادفعني لمناقشة هذا الموضوع هو مقال نشرته مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية مؤخراً حول ماوصفته بتفكك التحالف السعودي الأمريكي، وأن "زواج المصلحة" الذي وصفته بالهش القائم بين واشنطن والرياض منذ الحرب العالمية الثانية يواجه حالياً خطر الانهيار، وخلص المقال الذي كتبه كل من كيث جونسون وروبي غرامر إلى أن هذا السيناريو يلوح في الأفق نظرا لوصول عدم الثقة المتبادلة بين الولايات المتحدة والسعودية إلى مستوى غير مسبوق في ظل الاضطرابات التي شهدتها أسواق النفط العالمية في الآونة الأخيرة.

والحقيقة أن المقال ينطلق من من فرضية واحدة ويتجاهل مجمل مسيرة هذا التحالف، الذي يعد من بين الأقوى والأكثر ثباتاً في العلاقات الدولية المعاصرة، ومن الجيد أن المقال قد تطرق إلى المقارنة بين التطورات الأخيرة في أسواق الطاقة العالمية، بالأزمة النفطية التي اجتاحت الغرب خلال فترة حرب أكتوبر عام 1973، بسبب وقف السعودية والامارات تصدير النفط إلى الدول الداعمة لإسرائيل، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، فهذه المقارنة لوحدها تكفي للاستدلال على قوة التحالف وليس العكس، فبغض النظر عن الفارق الكبير بين تأثيرات الأزمتين وأيضاً وجهة نظر ومنطلقات ودوافع المملكة في الحدثين، فإن قدرة التحالف على تفادي آثار الأزمة الأولى بكل ما كان لها من تبعات وتداعيات كبرى، تجعله قادراً على تجاوز أي أحداث أو معضلات أخرى.

التحالف السعودي الامريكي شهد منذ نشأته في فبراير 1945 أحداثاً وهزات ضخمة، واختبارات صعبة، ربما من أخطرها اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر 2001، ونجح في تجاوز هذه الاختبارات جميعها بثقة، واثبت قدرته على الاستمرار والبقاء والتطور، ولكن الموضوعية تقتضي بالمقابل أن الزمن قد تغير وتغيرات معطيات كثيرة، ومن ثم فإن ركائز هذا التحالف لم تعد كما هي تماماً، فالمصالح والأولويات الاستراتيجية للطرفين قد شهدت تغيرات كثيرة، وهذه التغيرات تنسحب على شبكات المصالح والتحالفات، والأمر في هذه الجزئية لا يتعلق بالمملكة العربية السعودية ولا الولايات المتحدة معاً، بل تتعلق بشبكة مصالح وتحالفات وأولويات كل طرف على حدة.
ولنأخذ قياساً، أو على سبيل المقارنة، التحالفات الأمريكية مع شركاء الأطلسي الأوروبيين، والكل يدرك ماذا طرأ على هذه التحالفات من تغيرات تكاد تعصف بأسسها ظاهرياً أيضاً، سواء بسبب الخلافات على التعامل مع القضايا الدولية، أو بسبب مساهمات الدول الأعضاء في ميزانية حلف الأطلسي وغير ذلك من قضايا خلافية أخرى عديدة. هناك أيضاً تباينات المصالح الاستراتيجية في العلاقات الامريكية مع حلفاء استراتيجيين آخرين مثل اليابان وكوريا الجنوبية وغيرهما.

صحيح أن التحالفات الاستراتيجية الأمريكية مع بعض الدول قد انهارت أو تفككت مثلما حدث مع باكستان ودول أخرى، وصحيح أن الرياض قد اتجهت في السنوات الأخيرة إلى تنويع الشركاء الاستراتيجيين وتوسيع قاعدة الحلفاء والشركاء الاستراتيجيين بتعزيز التعاون مع الصين وروسيا والقوى الصاعدة مثل الهند وكوريا الجنوبية واليابان، ولكن المملكة العربية السعودية لا تزال تحتفظ بأهميتها الاستراتيجية بالنسبة للجانب الأمريكي، والعكس صحيح كذلك.
الثابت أنه في العلاقات الدولية المعاصرة، لم يعد التطابق والتوافق التام في المصالح الاستراتيجية بين الدول قائماً وبات جزء من الماضي، وأصبح من الطبيعي أن تكون هناك هوامش مرونة لكل حليف يبحث فيها عن مصالحه الخاصة، كما لم تعد التحالفات الاستراتيجية بذات الصيغ الجامدة الصامتة التي كانت عليها في القرن العشرين، بل تحولت إلى صيغ مرنة من التحالفات، بالتوافق على الثوابت والتحرك بمرونة فيما عد ذلك من ملفات وقضايا.

والواضح أن التحالف السعودي الأمريكي يمر في السنوات الأخيرة، وتحديداً منذ إبرام الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة 5+1" عام 2015، بفترات اختبار صعبة، وهناك تساؤلات كثيرة حول نهج الرئيس ترامب تحديداً ورؤيته لأمن الحلفاء، ليس فقط بالنسبة للحليف السعودي، ولكن أيضاً للحلفاء الأوروبيين وغيرهم، وذلك في إطار كونه يمتلك رؤية مغايرة لدور الولايات المتحدة القيادي العالمي، كما حدثت تغيرات في معطيات هذا التحالف مثل وجهة الصادرات النفطية السعودية التي يتجه معظمها إلى الصين ودول آسيوية أخرى وليس إلى اوروبا والولايات المتحدة كما كان الحال سابقاً، حيث تقلص الاعتماد الأمريكي على نفط الشرق الأوسط عقب ثورة النفط الصخري في العقد الأخير.
الأمر إذن يتعلق بتغير في المعطيات الجيوسياسية وليس خلافات حول أساسيات وثوابت التحالف ذاته، فالمبدأ لا يزال يحتفظ ببريقه وأهميته لدى الطرفين ولا يتأثر بتغيرات سياسية تكتيكية لم تنعكس بعد على النهج الاستراتيجي الأشمل، بل إن المملكة التي ازدادت أهميتها في الاقتصاد العالمي فضلاً عما تتمتع به من ثقل ومكانة سياسية ودينية في العالم الاسلامي، باتت شريكاً أكثر حيوية للولايات المتحدة عن ذي قبل لاسيما في قضايا محورية مثل الأمن والاستقرار الاقليمي ومكافحة الارهاب وغير ذلك، والولايات المتحدة لا تزال شريكاً موثوقاً بالنسبة للرياض، وكلا الطرفين لا يزال بحاجة للآخر ـ وفقاً لمجمل الشواهد والمؤشرات ـ في إطار صيغة مصالح متبادلة أوسع وأكثر تعقيداً من تلك التي كانت نقطة انطلاق للتحالف في بداياته.