تعوّدنا مذ كنّا فتيانا صغارا على مقاعد الدراسة ان نتلقى النصيحة والموعظة الحسنة من السلف الصالح ومن علمائنا الأجلّاء وآبائنا الكرام وأساتذتنا ومعلمينا وكبارنا الذين خبروا الحياة وذاقوا حلوَها ومرّها ومشوا في دروبها الوعرة والسالكة لكنني قبل مدة ليست بعيدة قد اطلعت بالصدفة على نصائح من نوع اخر يمكن تسميتها مواعظ زمن العولمة هتكاً للوقت الفائض وخاصةً اننا الان نعيش فترة الحجر الصحي والاقامة الجبرية في البيت.

وأحسب ان هذه المواعظ والنصائح تختلف كثيرا عما اعتدنا ان نسمع او نقرأ مثلها قبلا وعلى لسان احد روّادها اللامعين وهو " بيل غيتس " مؤسس اهم شركة عالمية في عالم الحاسوب المبهر ( مايكروسوفت ) وباني اسس صروح عالم التقنية الحديثة لهذه العلوم وواضع برامج مايكروسوفت المتعددة، هذه النصائح والوصايا التي لفتت نظري كثيرا مثلما لفتت نظر معظم من تابع مسيرة حياته الحافلة عالما دؤوبا وإنسانا ذا قلب يقطر نبلاً وحبا للآخرين من خلال تبرعاته الهائلة الى الجمعيات الخيرية وسدّ متطلبات ذوي الحاجة والعوز.
يقول غيتس -- وفقا لترجمتي المتواضعة

— موجّها كلماته الى الشباب والأجيال الحاضرة التي وضعت اولى خطاها في ميادين العمل وكدح الحياة... يقول غيتس :

-- الحياة ليست عادلة في كل الأوقات. حاول ان تتعود على ظلمها، احيانا، في بعض المواقف التي تمرّ بك.
-- البشرية في غالب الأحوال لا تهتم بأنك تحبّ ذاتك، فالناس تنتظر انجازاتك وعملك ولا تعبأ بنرجسيتك، وكن آخر من يهنئ نفسه بما قدّم.

-- ليكن بعلمك ايها الفتى انك لن تحصل على 60 الف دولار راتبا سنويا لمجرد انك تخرّجت من الجامعة.
-- اذا ظننت ان لديك معلّماً قاسياً فاعلم انه ينتظرك ان تكون ربّ عمل ناجح او مديرا لشركة مرموقة او شخصا متميزا في احد حقول المعرفة اذ يقول مثلنا الشائع : سرْ وراء من يبكيك ولا تتبع من يضحكك.

-- ان تشتغل في اول خطاك الى سوح العمل بغسل الصحون او مسح بلاط المطابخ وكنسها لا يحطّ من قيمتك كإنسان فأجدادك وآباؤك يعتبرون هذه الأعمال التي تسمونها رثّةً هي بدايةٌ لإدارة إنتاج مقبل قد يسترعي الانتباه لامحالة.

-- تعلّم من أخطائك وتوقّف عن لوم نفسك وتجاوزها. وأبواك ليسا مسؤولَين دائما حين تتعثر وتخطيء فالذي يعمل يخطأ، اما من لايعمل فلا يخطأ.

-- تذكر دائما ان أبويك هما من قاما بتعليمك وغسْل ثيابك وتنظيف برازك وفضلات جسمك وعملا على نشأتك ولم يكونا هرمين عاجزين قبل ولادتك فلا تنبذهما ان أصبحا مملين الان لأنهما دفعا ثمن حياتك ونهوضك من قوتهما السابقة.

-- قبل ان تقوم بتنظيف الغابات الاستوائية وحماية البيئة من النفايات بكل أشكالها وتصخب لإيقاف التلوّث في الأرض ؛ عليك ان تقوم بترتيب غرفتك وتنظيف بيتك اولا، وغسل محيط عملك وزقاقك كلما تطلّب ذلك.
-- الكثير من أرباب العمل ليسوا على استعداد دائم لمساعدتك وفي كل الاوقات، انها مسؤوليتك وحدك فاتّكِلْ على نفسك قبل ان تطلب من هؤلاء العون والمشورة.

-- لا تعوّل كثيرا على انتظار فصل الصيف لتقضي عطلتك السنوية طالما يقتضي وجودك في هذا الفصل بميادين العمل ويمكنك الاسترخاء وقضاء إجازتك الصيف المقبل او مابعده. فالمقصد الذي تشتهي زيارته سيبقى ينتظرك في السنوات اللاحقة.
-- السينما والتلفاز وبقية وسائل الاعلام ليست دائما هي الحياة الحقيقية ؛ فالحياة الحقيقية تبدأ حينما يترك الناس المقاهي ومنتديات الثرثرة الفارغة لينخرطوا في ميادين الإنتاج.

-- لا تقارن نفسك مع ايّ شخص في العالم مهما علت منزلته وارتفع مجده لانك ان فعلت ذلك تهين ذاتك.
هذا ملخّص ماقاله الشيخ العولميّ / بيل غيتس محاضراً على منبر احدى المعاهد الدراسية الاميركية قبل بضع سنوات وقد أحببت ترجمتها لابنائنا الشباب المقبل على الحياة ليقيني ان النصيحة لا تتقادم مع مرور الزمن بل ربما تكون أكثر ثراءً ونفعا حالها حال السجادة الفارسية التي تبقى نفيسة كلما مرت عليها الأزمان ؛ وهي اثنتا عشرة قاعدة قد لايتعلمها التلميذ في المدرسة ولا يتم التطرّق اليها في أروقة الجامعات.

بقي عليك ايها الشاب اليافع وصديقنا القارئ الذي وضعت اولى خطاك في معترك هذه الحياة ووقفت امام رياحها العاتية مرة ونسائمها العليلة مرة اخرى أما ان تسترشد بها وتتمسك بوصاياه كما تمسّكنا بمواعظ لقمان الحكيم وأئمتنا ومشايخنا الأجلاّء وسلفنا الاول أو رميها جانبا في خانة " الدليت " باعتبارها نفايات عالم العولمة وربما لاتصلح لنا ولاتتناسب مع توجهاتنا طالما ان " بيل غيتس " لايلبس العِمّة على رأسه ولايحيط جسده بالجُبّة او الطيلسان ؛ ولك ان تلتزم بالمثل السائر الذي نلهج به دوما في احاديثنا والذي يقول بان " عقلك براسك لتعرف خلاصك " مع معرفتي وتأكيدي بسذاجة هذا المثل لان العقول أصناف وأنواع منها مايتغذى على السمين ومنها ماينهل الغثّ الهزيل وكم كان مصيبا أحد شعرائنا حين قال :
وما كلُّ ذي لُبٍّ بمؤتيكَ نصحَهُ....... وما كلُّ مؤتٍ نصحَهُ بلبيبِ.

وللتذكير أقول ان السيد بيل غيتس كثيرا ماتبرع بثروته من اجل الفقراء والمعوزين والمدحورين وذوي الحاجات الاساسية في الحياة ومازال مستمرا في العطاء بروح مبادرة كريمة ومن المؤكد ان تكون نصائحه وإرشاداته ذات نوايا اكثر من طيبة لمن يخطو خطواته المبكرة في مسيرة هذه الحياة من شبابنا وفتياننا فليس التبرع بالمال وحده يكون السخاء انما النصح والارشاد والموعظة الحسنة الناتجة عن عقل خصيب مثل عقل " غيتس " قد تكون انفع مالا وأثرى دعما لانها نابعة من تجارب الحياة بحلوها ومرّها.

ما اوسع البذل ان كان مالاً او نصحا فربّ نصيحة ثقيلة بموازينها المعنوية تساوي بل تفوق ما يملأ جيوبنا مالا وفيرا وما يزيّن أجسادنا ذهبا وجواهر لأنها أكثر لمعانا وإشراقا من ثروة قد تزول ويختفي إشراقها في غفلة من الزمن.

[email protected]