عن دار "فايار" الفرنسية المرموقة، أصدر المفكر الفرنسي ادغار موران سيرته الذاتية التي حملت عنوان :”الذكريات تأتي لملاقاتي". وفيها يروي بطريقة أدبية ساحرة ومثيرة تفاصيل مسيرته الفكرية المديدة هو الذي اخترق القرن العشرين بكامله تقريبا ليعيش جل أحداثه الكبيرة والصغيرة، وحروبه، وكوارثه ومباهجه أيضا.

وقد يكون إدغار موران المولود عام 1921 آخر عماقة الفكر والفلسفة وعلم الإجتماع في فرنسا. تدلّ على ذلك مؤّفاته الغزيرة في المجالات المذكورة، ومساهماته المتعدّدة والهامّة في إذكاء الصّراعات المتّصلة بها على مدى عقود طويلة.وقد كانت حياة هذا المفكّر الذي نذر الشّطر الأكبر من حياته للدّفاع عن الحرّيّة، وعن المبادئ الإنسانيّة السّامية سلسلسة من المغامرات المثيرة في البحث،وفي التأليف،وفي النّضال الإجتماعي، والسياسي حيث أنه شارك في المقاومة ضدّ الإحتلال النّازيّ لبلاده.

وبعد الحرب الكونيّة الثانية انتسب للحزب الشيوعي الفرنسي غير أنه انفصل عنه عام 1949 ليكتب نقده الذّاتي مندّدا بالستالينية، وبمعسكرات الإعتقال في ما كان يسمّى بالإتحاد السوفياتي.وعن ذلك كتب يقول:"ربّما يفهم انتسابي للحزب الشيوعي كما لو أنه بحث عن حماية، وعن غطاء، وعن عائلة جديدة، وكأمل في أن تعود والدتي لعالم الأحياء من جديد".كمادأب إدغار موران على المشاركة في كلّ الصّراعات التي شهدها العالم منذ منتصف القرن العشرين وحتى هذه السّاعة. وفي سيرته المذكورة، يتحدث إدغار موران عن مختلف مراحل حياته،وعن المعاني العميقة لأفكاره، ومواقفه، ومؤلّفاته.

وهو يقول إنّ أوّل مأساة صدمته كانت وفاة والدته وهو في التّاسعة من عمره.وقد قادته تلك الفاجعة مبكّرا إلى قراءة أعمال الكبار في مجال الفلسفة والأدب من أمثال مونتاني، وباسكال، ودستويفسكي وتولستوي وغيرهم. وعن اختياره الانتساب إلى حركة المقاومة، يقول إدغار موران:”كنت في العشرين لمّا احتلّ النّازيّون بلادي. وكنت أرغب في أن أتعرّف على الحياة، وأن أجرّب الحبّ والمغامرة.كنت أريد أن أعيش الحياة بقوّة وكثافة..وكنت أرى أنه إذا ما أنا ابتغيت الحفاظ على حياتي، فإنه يتوجّب عليّ أن أتخفّى.

والحال أن الحياة تعني بالنسبة لي أن أرمي بنفسي في تلك المغامرة الهائلة المتمثّلة في الحرب الكونيّة الثّانية.وفي ذلك الوقت كنت أكتب يوميّات عن حياتي الخاصّة والسرّيّة.وذات مساء، سمعت سمفونيّة "الباخرة الشّبح " لفاغنر فكانت بمثابة النداء الذي يدعوني للإلتحاق بالمقاومة.

عليّ أن أنطلق إذن فالريح تهبّ، ولا بدّ من أن نحاول أن نعيش.عندئذ كتبت في يوميّاتي:”عواصف الباخرة الشّبح، احمليني معك"”.والجملة تقليد لجملة شاتوبريان التي يقول فيها:”انهضوا بسرعة، العواصف الرّعديّة المرغوبة".

ويشير موران إلى أن سنوات المقاومة كانت رائعة من حيث العواطف الإنسانيّة، والصداقات بين المقاومين.وكانت بحق "كنزا ثمينا "بحسب عبارة الشاعر الكبير رنيه شار الذي شارك في المقاومة هو أيضا، ومن وحيها كتب مجموعته الشهيرة :”أوراق هيبنوس".

غير أن ما حدث بعد الحرب كان مؤلما جدا.فقد تمت معاقبة نساء ضاجعن جنودا ألمانا بحلق رؤوسهن. كما حدثت مظالم أخرى عديدة، وانتهاكات بشعة. وهذا ما عبّر عنه رنيه شار حين كتب يقول:”أخشى الهيجان ،كما أخشى البؤس اللذين سيعقبان الحرب.أستشعر أن الإجماع المريح، والجوع للعدالة سوف ينتفيان بسرعة حالما بنحلّ رباط معركتنا الذي كان يجمع بيننا"
ومن وحي تجربة المقاومة والحرب.

أصدر إدغار موران كتابه الفكريّ الأّوّل الذي حمل عنوان:”الإنسان والموت".وفيه ظلّ "وفيّا " لماركس بحب تعبيره الذي يربط الفلسفة بالتاريخ، والإقتصاد، والسياسة، مضيفا إلى تلك العناصر ما يتّصل بالخيال، والأسطورة ، والرمز، والمكوّن لأبعاد الإنسان في المجتمع من دون أن يعتبر ذلك من "البنى التّحتيّة".

ويشير ادغار موران إلى أنّه استفاد عند صياغتة لرؤيته الفكريّة هذه من كتاب ألّفه عن السّينما بعنوان :”الإنسان الخياليّ"، وفيه يبرزغزو الخيال لآلة مهمّتها تصوير العالم الواقعيّ،،ويظهر أحلامنا. وفي السّبعينات من القرن الماضي، أصدر إدغار موران كتابةه الهامّ الذي حمل عنوان :”الطريقة"،وفيه يرسم صورة عميقة لمنهجه الفكريّ مستفيدا من الفلاسفة الكبار، خصوصا هيغل.

وفي هذا الكتاب هو يدافع عن ما يسمّيه ب"الفكر المعقّد"الذي لا يعني التّعقيد وإنما الطّموح إلى الكمال الفكريّ الذي يحرّرنا من الفكر المجزّأ، والمقسّم، والمختزل. وملخّصا مضمون كتابه المذكور، هو يقول:"الطريقة ليست برنامجا للمعرفة، وإنّما هي استراتيجيّة المعرفة التي على كلّ واحد ممارستها".

وفي نفس هذه الفترة،أي السّبعينات، انطلق إدغار موران إلى كاليفورنيا ليعيش تجربة فكريّة أخرى، ففي ذلك الوقت ،كان الشباب الأمريكي يعيش تجربة ا"الهيبّبي".وكان أدب ما أصبح يسمّى ب"البيت جينيرايسون"رائجا ومؤثّرا في الحياة الثّقافيّة، والفنّيّة، والفكرية عاكسا نمطا وأسلوبا جديدا في الحياة داخل المجتمعات الرّأسماليّة والإستهلاكيّة. ومن وحي تجربته الكاليفورنيّة ،كتب يوميّات فيها جمع بين الفكر والأدب.

وعن الإهتمام العالمي الذي أصبحت تحظى به أفكاره حتى أن بعض الجامعات في جنوب أمريكاأطلقت اسمه عليها،يقول إدغار موران:”لماذا يهتمّ الطلبة واللأساتذة والمثقّفون في جنوب أمريكا بأفكاري؟ والجواب هو أن المعرفة هناك ليست مقطوعة عن الحياة الإجتماعيّة كما هو الحال في فرنسا.

ويبدو لي أنّ هناك حيوّية تراجيديّة رائعة في تلك البلدان التي وسمتها جراح مؤلمة وعديدة.

وعلينا أن نضيف إلى كلّ هذا، التّنوّع الجنسيّ، والثقافي،والعرقيّ ، والذي يحرّض على الإنفتاح الفكري، وعلى الثقافات ألأخرى. وأعتقد أن رواية متعددة الأصوات والأساليب مثل "مائة عام من العزلة" هي في الحقيقة نوع من "الفكر المعقّد "الذي عنه تحدّثت...

إن المعرفة الحقيقية هي تلك التي تقودنا إلى لغز الأشياء.