يبقى مصطفى الكاظمي رئيس مجلس الوزراء العراقي الى أمد ليس بالقصير من عمر ولايته موضوعا قائما مفتوحا لن يغلق في الكتابات والاحاديث واللقاءات، ربما أكثر من غيره ممن سبقوه، لانه جاء في ظروف غاية في التعقيد والصعوبة على المستوى السياسي والاقتصادي والامني والصحي والسيادي، وقبل التصدي لمهمة تكاد تكون مستحيلة بكل المقاييس وتتطلب عصا سحرية تلقف كل المشاكل والازمات، وقدرة خارقة وارادة حازمة على التغيير، وهي مهمة لخصها برنامج شمل محاور عديدة يصعب على حكومة تريد ان تكون لها بصمة خاصة تناسب ما حظيت به من دعم داخلي وخارجي بهذه المدة القصيرة وربما على حكومات غيرها.

قراءة موضوعية لمقال الكاظمي في الصحف العراقية ( نشر الاثنين الماضي )، توحي أن مهمته ليس سهلة وهذا ما قلناه في المقال السابق ، وليس أمامه إذا ما أراد أن تكون له تلك العلامة أن يحل التناقض بين الوعود العلنية في منحه حرية اختيار التشكيلة الوزارية وما يدور في الكواليس من مناورات وشد من البعض بالتحرر من ضغوط الاحزاب ويمضي في الاختيار بعد أن عبرت حكومته عقدة التصويت التي تتحكم بها الكتل وبذلك يكون قد بعث برسالة واضحة الى الشعب في ان الحكومة تعبر عن رغبته وتمثله وتستجيب لمطالبه في ساحات الاحتجاج بانقاذ البلاد من سيطرة الاحزاب والمحاصصة..

وكان من المناسب بدل هذا التوسع في البرنامج أن يكتب ورقة عمل قصيرة تقتصرعلى المهمة الاساسية لانجاز الانتخابات المبكرة وينهي مرحلة مظلمة ويضمن في الوقت نفسه النجاح والتميز والبصمة الخاصة والخروج بوجه أبيض اذا جاز التعبير، في حين يظل احتمال الفشل او التعثر واردا في انجاز فقرات البرنامج الواسع كلها، وعندها يكون كغيره ممن سبقوه.

و يمكن ان تحقق الانتخابات المبكرة امورا اخرى مهمة مرتبطة بها، منها حصر السلاح بيد الدولة لتضمن نجاح الانتخابات وسلامتها من الضغوط واعادة هيبة الدولة وضمان مشاركة واسعة من الشعب بعد عزوف كبير عن الانتخابات السابقة وبذلك تكون قد اقتربت من مطالب الجماهير المنتفضة..

درس حكومة عادل عبد المهدي يجب ان يُستوعب بدقة.. فالتمنيات والوعود وحدها لا تكفي.. فقد جاء عبد المهدي ببرنامج حكومي نظري مقبول ظهر فيه وكأنه مراقب أومحلل ومنظر أوكاتب مقال، وليس قائدا منتدبا لحل ازمة يعاني منها العراق ويخلصه من ثلاثية ( الفساد والفاسدين والمحاصصين والفاشلين ) لتكون له علامة خاصة يمكن أن توصف بانها إنتقالة نوعية في الحكم تضع العراق على الطريق الصحيح وتعويضه ما فاته في السنين العجاف كما توهم بعض المراقبين والسياسيين في تعقيبات بعد اختياره، أوكأنه الفرصة الاخيرة للعملية السياسية، وانتهت ولايته ولم يحدث فيها شيء ملموس غير الدماء التي تركت مهمة معرفة من أراقها في عهدة الحكومة الجديدة وقد شكلت لجنة خاصة لهذا الغرض وبذلك الزمت نفسها بالتوصل الى الحقيقة ومحاسبة المتورطين فيها.

ستبقى البلاد تدور في فلك المحاصصة ما دامت الاحزاب والكتل صاحبة القرار، وتكبل رئيس الوزراء بقيودها و ( واستحقاقاتها ) ومكوناتها بموجب المحاصصة وكأنها قدر لا فكاك منه وتتمسك به ما دام الجميع يتمتعون بالحكم وامتيازاته دون حساب على الفشل والاخفاق لغياب المعارضة الحقيقية في العملية السياسية.

وبعد تمكن الكاظمي من تمرير حكومته يستطيع ان يقلل من مخاطر المحاصصة ان لم يكن قادرا على التخلص منها وسيطرة الاحزاب اذا كان جادا في ذلك من خلال خطة معينة دون ان تؤثر على ذلك ( المنهج القدري ) المكتوب علينا بعد ان توزعت الحصص بموجبه ..
فهل هناك مانع دستوري أو محاصصي يمنعه من تشكيل لجنة خاصة به، تكون بمثابة حكومة ظل دون صلاحيات، تضم نخبة متميزة من مختلف الاختصاصات، ومن غير المحسوبين على الكتل والاحزاب، من الادباء والفنانين والعلماء، والخبراء الاستراتيجيين، والقانونيين والاقتصاديين بمختلف فروع الاقتصاد ونشاطاته، والتعليم، والعلاقات الدولية وغيرها من التخصصات التي تتعامل بها الحكومة، بدءا من نظافة الشارع وصعودا الى الدبلوماسية والامن، ترصد الواقع بدقة وتقترح المبادرات التطويرية، والمعالجات للمشاكل والازمات دون أن تتدخل في عمل الحكومة إطلاقا، وكأنها حكومة ظل، من نوع أخر، بدون سلطة أو صلاحيات، وليست معارضة، أو تحل محل الحكومة في حالة استقالتها مثلا، بل يقتصر عملها على وضع تصورات للحلول، ومقترحات للتطوير أمام رئيس مجلس الوزراء، وتأشير الخلل في العمل الحكومي ليتخذ ما يراه مناسبا من خلال حكومته الفعلية..

لجنة تكون بمثابة ( حكومة ظل ) من نوع أخر، لكنها بلا سلطة، وبلا غطاء سياسي، أو حزبي تستظل به حتى لا ينتقل لها فايروس المحاصصة، تتلمس نبض الشارع في التشخيص والتحليل ، والتطوير..

ليس هناك مانع يحول دون تشكيل هذه اللجنة، ما دامت لا تؤثر على عمل الحكومة الاعتيادي، أو تتدخل فيه..
وعندها يكون الكاظمي قد حقق شيئا مهما بهذه الخطوة..فهل يتمكن من ذلك؟

- نتمنى.